لا
شيء يعادل الاتضاع فهو أصل وجذر وأساس كل الصالحات والراعي لها، وبدونه نصير نحن
ممقوتين وملعونين ودنسين. لو كان هناك إنسان يقيم الموتى ويشفي العرج ويطهر البرص،
لكنه متكبر ومتباه بذاته، فهذا لا يمكن أن يوجد من هو أشنع منه، كما لا يوجد من
يبغضه الله أكثر منه. لا تعتبر ذاتك شيئاً.
هل
حباك الله بموهبة التعليم وفصاحة اللسان؟ لا تعتبر لأجل هذا الأمر أن لك شيئاً أكثر
مما لدى الآخرين. لأنه لأجل هذا السبب على الأخص، عليك أن تكون متضعاً، لأن الله
أنعم عليك بمواهب أكثر. بل بالأكثر خف من هذا، لأن هذا في الغالب سيكون سبباً
لهلاكك لو لم تكن حذراً ومنتبها لنفسك.
ويقول النبي عن الذي يعمل بعكس ما يعظ به: "وللشرير قال الله ما لك تحدث بفرائض
وتحمل عهدي على فمك" (مز 16). لأن هذه هي أسوأ بلية عندما يكون الإنسان جيداً في
التعليم بالكلمة، ثم ينقض التعاليم التي يعظ بها بأفعاله. كان هذا الأمر سبباً
لشرور كثيرة في الكنائس. كثيرون يجتهدون في ان يكونوا قادرين على الوقوف على المنبر
ويعظوا عظة طويلة، وإن نالوا إعجاب وتصفيق الحاضرين، فهذا يكون بالنسبة لهم وكأنهم
ربحوا ملكوت السماوات ذاته، لكن لو صمتت الجموع عند نهاية عظتهم، فهذا يكون بالنسبة
لهم أسوأ من جهنم ذاتها.
وهذا الأمر قلب الكنائس رأساً على عقبن لأنكم لا ترغبون في سماع حديث محسوب أنه
يقودكم إلى التوبة والندم، بل تريدون من يبهجكم بصوته وتركيب كلماته (فصاحته وجمال
صوته)، وكأنكم تستمعون إلى مغنيين وممثلي كوميديا، ونحن أيضاً نلعب دوراً يثير
الشفقة عندما ننقاد إلى شهواتكم، بينما كان ينبغي علينا أن نستأصلها. فبدلاً من أن
نشغل أنفسنا بتعليمكم وإنارة أذهانكم ونخس قلوبكم للتوبة، نجعل كل همنا هو في صياغة
الكلام المنمق وإنسجام تعبيراتنا بما يجلب استحسانكم، ونغادر المكان بالتصفيق دون
أن نقوّم ونصحح طباع الناس وسلوكهم الرديء!
صدقوني أنا لا أتكلم إلا بما أشعر - بينما أنا أعظ واسمع الهتاف والتصفيق لي - في
هذه اللحظة أنا كإنسان اشعر بالابتهاج واستسلم للإحساس بالمسرة، إنني اعترف أمامكم
بالحق والصدق ولكن عندما أرجع إلى البيت وأحدّث نفسي بأن من صفقوا لي لم ينالوا أية
منفعة من حديثي، بل إن المنفعة التي كان يجب أن يحصلوا عليها قد فقدوها بينما هم
يصفقون لي ويمتدحونني، أكون في ألم وضيق وأنين وأشعر كما لو أن كل ما قلته باطلاً
وعبثاً، وأقول لنفسي: أية فائدة تأتيني من أتعابي بينما لم ينتفع السامعمون بما
سمعوه منا؟ لا بل كثيراً ما فكرت في أن أضع قانوناً يمنع كل تصفيق، ويقنعكم
بالاستماع في صمت، وأن تصيروا في نظام وترتيب.
لكن
أتوسل إليكم أن تحتملوني وتقتنعوا بما أقوله، وإن بدا هذا حسناً لكم فلنضع هذا
القانون الآن: أنه غير مسموح لأحد أن يصفق في وسط عظة أي إنسان، لكن لو احتاج أن
يبدي السامع إعجابه فليُبده في صمت فلا شيء يمنعه من هذا وليجعل كل اجتهاده ورغبته
المتلهفة في أن ينكبّ بشدة على استيعاب ما قيل ويحوله إلى سلوك عملي.
وعدم التصفيق هذا سيأتي لنا بنفع عظيم. لذلك ليتنا نلتزم بهذا القانون من الآن،
وليتنا كلنا نسمع في صمت، لنقول نحن كل ما نريد أن نقوله بدون أن يوقفنا التصفيق.
تكلم السيد المسيح ووعظ على الجبل، لكن لم يقل أحد أي شيء إلى أن انتهى من كلامه.
لست أحرم أحداً ممن يريدون أن يُصفق لهم، بل على العكس أنا اجعلهم يثيرون الإعجاب
أكثر برفضهم قبول التصفيق. من الأفضل جداً لمن يسمعون الواعظ أن ينصتوا في صمت دون
تصفيق، على أن يفقدوا كل ما سمعوه ويعودوا إلى البيت فارغين وغير مقتنين شيئاً من
الموضوع الذي لأجله صفقوا. لأنه في هذه الحالة لن يصير المستمع سوى إنسان مثير
للسخرية، بل أنه سيُعتبر منافقاً ومديحه لن يكون إلا استهزاءً حينما يعلن أن
المتكلم تكلم بطريقة جميلة، لكنه لا يستطيع أن يخبر ما قال به الواعظ.
لا
شيء يليق هكذا بالكنيسة مثل الصمت والنظام الحسن. الضوضاء شيء يخص المسارح
والأسواق، لكن حيث التعاليم، وبالذات هذه التعاليم التي هي موضوع الحديث، ينبغي أن
تُسمع في صمت وهدوء وتأمل ساكن...
لأجل هذا يتحدث غير المؤمنين عنا بالسوء، كما لو كنا نفعل كل هذا بغرض الاستعراض
والتباهي. لكن لو مُنع هذا التصفيق فسيختفي حب الجلوس في المقاعد الأولى...
نعم
أتوسل إليكم أن نقر هذا القانون (ونلتزم بعدم التصفيق البتة في الكنيسة)، لكي إذ
نعمل كل الأمور بحسب مشيئة الله نوجد جديرين برحمة ونعمة ورأفة ابنه الوحيد يسوع
المسيح ربنا، الذي له مع الآب والابن والروح القدس المجد والإكرام والسلطان الآن
وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين. |