اذا كان حضور الروح القدس
فينا عليه ان يثمر فعلياً من جهتنا ان نسعى الى الغاء كل ما يعيق نضوج ثمار الروح.
في الواقع نختبر فينا وجود
قوة (أو قوى) تعارض نمو تلك الثمار..يسمي القديس بولس هذه القوة "الجسد" (السركس).
غير ان كلمة "جسد" لاتعني هنا ما نقصده عادة بهذا اللفظ.
"اني بشر (باليونانية:
سركينوس = تابع للسركس) بِيعَ ليكون للخطيئة. وحقاً لا أدري ما افعل: فالذي اريده
لا افعله، وأما الذي ارغب عنه فاياه افعل... فلست اذاً انا الذي يعمل ذلك، بل
الخطيئة الساكنه فيّ...ان الانسان الباطن فيّ يسرّ بناموس الله. بيد اني ارى في
اعضائي ناموساً آخر يحارب ناموس ذهني (روم 7/14- 15،17،22). ونقرا في دستور
العقائدي في الكنيسة وعالم اليوم "13" للمجمع الفاتيكاني الثاني: "فالانسان مقسوم
على ذاته. وها حياة الناس كلها، فردية كانت أم جماعية، تبدو صراعاً، وكم هو دام،
بين الخير والشر، بين النور والظلام.
ومن هنا ضرورة "الكفاح
الروحي": "وبعد فتقَووا في الرب وفي قدرته العزيزة. تسلحوا بسلاح الله لتستطيعوا
مقاومة مكايد أبليس" (اف 6/10-11). والمسيح نفسه، قبل بدارسالته العلنية، اعطانا
قدوة لمثل هذا الكفاح اذا قاوم القوة الشريرة المعارضة لعمل الروح القدس. ("اقام
يسوع بدافع من الروح في البريةّ اربعين يوماً، وابليس يجربه "، لو 4/1-2 ). وقال
فيما بعد: "من اراد ان يتبعني، فليزهد في نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني"
(لو9/23).
فماذا يعني أن نحمل صليبنا
على أثر المسيح؟ هل هو فقط أن نقبل بأيمان المشقات التي تفرضها علينا الحياة؟ ام هو
أيضاً أن نفرض نحن شيئاً من الصرامة على حياتنا؟ يبدو ان الكتاب المقدس يحثنا على
تبنيّ وجهة النظر الثانية. فيقول القديس بولس اشارة الى تدريب الرياضيين المنتظم:
أما تعلمون أنهم في الميدان يجرون كلهم، ولا يجوز قصب السبق الا واحد منهم. فأجروا
أنتم مثله حتى تفوزوا. وكل مسابق يحرم نفسه كل شيء، فهؤلاء يفعلون ذلك من اجل اكليل
يزول، واما نحن فمن اجل أكليل لا يزول" (1قور9/24-25). وسمعنا المسيح يقول: "ليحمل
صليبه كل يوم" (لو9/23). تشير هذه النصوص الى سلسلة منتظمة من الجهود الطوعية وليس
فقط الى قبول المشقات غير الارادية. ان هذه الجهود اليومية تكوّن ما نسميه "الزهد".
الكلمة اليونانية المستعملة
في العصر الأول من المسيحية هي Askesis أي ترويض او تمرين. ويذكر كارل راهنر (معجم
ص343): في الفلسفة الرواقية الشعبية الزهد (Askesis ) هو تمرين به نتحرر من كل تعلق
بالعالم لنبلغ الى حّرية الحكيم ولا انفعاليته. راجع جميل صليبا، المعجم الفلسفي
الجزء الاول ص640. وفي بداية الاسلام قيل عن الزهد في الدنيا انه نوعان: أحدهما
الزهد في الحرام، والآخر الزهد في الحلال. فاذا كان في الحرام كان فرضاً، واذا كان
في الحلال كان فضلاً. ان الزهد المسيحي لا يسعى بالدرجة الاولى الى تحقيق نوع من
الكمال الانساني حسب مفهوم معين للانسان كما عند الرواقيين مثلاً (راجع اعلاه). بل
له بُعد ديني جوهرياً. فان علّة وجوده الرئيسية هي مقومة الخطيئة التي تعيق عمل
الروح القدس في الانسان.
الانسان الخاطيء
ان الخطيئة ساكنة فينا (روم
7/17). إما كقوة رديئة وأما كأفعال معينة.
1) يسمي القديس بولس تلك
القوة الرديئة "شهوة الجسد": اقول لكم اسلكوا سبيل الروح ولاتقضوا شهوة
الجسد(epitumian sarkos) لأن الجسد يشتهي ما يخالف الروح (sarks epitumeikata tou
pneumatos) والروح يشتهي ما يخالف الجسد: كلاهما يقاوم الآخر حتر انكم تعملون ما
لاتريدون" (غل 5/16-18). هنا علينا ان نحذر من التوحيد بين ال"سركس" و"الجسد"
بمعناه العادي. وكذلك فان كلمة "شهوة " (Epitumia)لا تشير الى رغبات الجسد وحدها.
بل الى كل نزعة (ميل) حّسية أو نفسية تعارض عمل الروح القدس.
يبدو أن الانسان يميل من
طبيعته (او نتيجة "للخطيئة الاصلية") الى الاستقلال الذاتي، إما ميوله الغريزية
الأولية (التي تنوي الى حفظ وجوده والدفاع عنه امام المحيط أوالاخرين) وإما في
نفسيته المتمركزة علة ذاتها. في وقت ان ما ياتي من الله تتّم بطابع الغيرة (أي خضوع
الارادة لشخص أخر) أو على اي حال بطابع نسيان الذات في ميل ايجابي نحو الاخر. قال
يسوع الذي يريد ان يّخلص حياته يفقدها (أي: من يسلك حسب الجسد (sarks) المتمركز على
ذاته والذي نهايته الموت فهذا سيموت حتماً). وأما الذي يفقد حياته في سبيلي فانه
يخلصها (أي: من يسلك في المحبة التي تعطي ذاتها-amour oblatif- على مثال المسيح
فهذا سيحيا للابد لأن "الله محبة – agape" ((لو9/ 24).ان روح الله يريد ان يخلصنا
من "حب الذات " (amour-propre ) ليجعلنا نتفتح للمحبة. انه وحده يستطيع ان يعمل
ذلك. غير انه يطلب من الانسان ان يرافق عمله بمجهوده الشخصي (الزهد).
2) الخطيئة كفعل.
أ) الخطيئة والغلط.
يمكننا ان نغلط ضد المجتمع
وقوانينه. أو ضد المثل الاعلى الذي كّوناه لأنفسنا. أما الخطيئة فهي غلط نرتكبه ضد
الله، ليس باعتباره واضعَ شريعة الهية خارجية بقدر ما هو أب محبّ نرفض له ما يطلبه
منا بصورة شخصية لخيرنا او لخير اخوتنا. فالخطيئة بمعنى الكلمة هي دوما تقصير
بالنسبة الى المحبة وحتى نوع من الاستخفاف لمحبة الله.
ب) طبيعة الخطيئة الفعلية.
كتب كارل راهنر: "الخطيئة
كفعل بمعناها الكامل (الخطيئة الثقيلة) هي قرار جذري حر وجودي يذهب ضد ارادة الله
كما تبدو في اطار النظام الطبيعي... وفي الكلمة الموحاة. انها تتطلب المعرفة
الكاملة والحرية والمادة الثقيلة وضعيّا". (المعجم ص 123). ان الخطيئة بصورة عامة
"لايمكن أن تحصل الا في الحرية وبمقدار ما تكون هذه الحرية حقيقية" (المعجم ص124).
ولكن ما هي درجة الحرية الحقيقية عند أكثرية الناس؟ فهناك عوامل مختلفة تضغط على
حريتنا: منها الوراثة والتكييف الاجتماعي (Condition nement social) عن طريق
التربية وجو المحيط والدعايات) والمشاكل أو "العقد النفسية" التي تُحّدد بدرجة
كبيرة، ومن مستوى اللاشعور (بمعنى هذه العبارة عند فرويد) أعمالنا ومواقفنا. فهل
علينا، والحال هذه ان نعتبر الخطيئة مجرد وجه سلبي، لايمكن تجنبه. لتقدمنا نحو
الحرية (ونحن نتخلى تدريجياً من ضغط تلك العوامل التي تبقينا في حالة الاستغراب –
alinants) ولمسيرتنا الصعبة الطويلة نحو الكمال؟ ان اللاهوت المعاصر يميل الى هذا
الاعتقاد (teilhard de chardinpaul Tillich ). ويذكر كارل راهنر التمييز التقليدي
بين الخطيئة الثقيلة (أو "المميتة ") والخطيئة العرضية ويظن ان الخطيئة الثقيلة لا
تحصل الا اذا كان الانسان ينكر بصورة جذرية اتجاهه نحو غايته الاخيرة (اي الاتحاد
مع الله في المحبة) واذا رفض ان تؤثر نعمة الله على حياته (راجع المعجم ص124
وT.gofpi,Dictionnare De lavie spirituelle ,f 635. علينا ان نميز مثل هذه المواقف
اللاهوتية من تيار فكري حديث آخر سميّ "روحية الخطيئة " ( la mystipue du peche).
فيقول أتباع هذا التيار أن الخطيئة شيء ضروري ليختبر المرء ايضاً بصورة عميقة ان
المسيح هو مخلصه حقاً، وليتحرر من روحية الفريسيين (اي الاعتماد على قواهم الخاصة
أكثر منهم على رحمة الله). ونستطيع أن نقرب ونستطيع ان نقرب نوعاً ما هذا المفهوم
من مفهوم البروتستانتي للخطيئة الذي يلح على تركيب الانسان الاساسي الخاطيء، هذا
التركيب الذي هو في اصل كل فعل خاطيء... والذي يتكون من انانية كيانية وراثية ومن
فساد الانا... واذا ارتد الانسان بنعمة الروح القدس االى الايمان (= "التبرير")
فهذا لايمحو على الارض اوضاع الانسان الخاطئة. فالانسان يبقى مبرّرا وخاطئاً في آن
واحد."(راجع كارل راهنر، المعجم ص124). يعتبر اللاهوت الكاثوليكي مثل هذا المفهوم
متطرفاً. فاذا كان من الاكيد تقريباً أننا لانستطيع أن نكون دون خطيئة (نظراً
لأنانيتنا الاساسية) فعلينا أن نقاوم الخطيئة وأن نؤمن بأمكانية تقدمنا نحو الكمال
متعاونين مع النعمة. واذا حصلت الخطيئة فان رحمة الله هي اكبر من جميع خطايا
العالم. وليس من الضروري على كل حال ان نخطأ طوعاً كي نختبر قوة هذه الرحمة. قالت
القديسة تيريزة "الصغيرة" قبل موتها بقليل (وهي لم ترتكب أبدا، على ما يبدو، أية
خطيئة كبيرة في حياتها)، قالت "مثل العشار أحسأني خاطيئة كبيرة وفي الوقت عينه أجد
الله رحيماً الى درجة لا توصف! انه من المستحيل أن يحرك المرء مثلَ هذه الاحاسيس في
نفسه فان الروح القدس هو يحركها... "(DERNIERS DIALOGUES, 12/8/1897) فالاحساس
العميق بمعنى الخطيئة لاياتي من الخطيئة نفسها بقدر ما يُعطي من الروح القدس.
ونستطيع أن نضيف الى ذلك أن المؤمن، كلما اكتشف أكثرعظمة حب الله ورقته، شعر اكثر
بجحده تجاه هذا الحب، بصرف النظر عن ثقل خطاياه الوضعي. سنقول مع كارل راهنر ان
الخطيئة هي ثقيلة عندما تلمس بصورة جذرية اتجاه حياتنا الاساسي نحو الله. وحينئذ
تُرتَكب، حسب المصطلحات التي شرحناها اعلاه، على صعيد روح الانسان، حيث توجد "ينبوع
حريته" ومادة الخطيئة في هذه الحالة اختيارات حياتية اساسية بالنسبة الى معنى
الحياة وعلاقتنا مع الله. مثلاً اذا اخترت ان اعيش لنفسي ولاأهتم بأن أحب حقاً. او
اذا اخترت ألاأبذل جهدي لأقتدي بالمسيح ورفضت كل نظام في حياتي لهذا الغرض.
قد تجعل الصعوبات النفسية أو
الجسدية التزامَ روح الانسان غيرَ كامل في تطبيق اختياراته الاساسية. ولكن يستطيع
الروح أن يحتفظ دوماً بحريته فيبقى ثابتاً في اتجاهه الاصلي ويتجاوز الفشل بالنظر
الى الله الذي تأتي منه كلّ قوة، وبأستعداده لبذل جهوداً جديدة، وفي هذه الحال فأن
خطايانا العادية ليست الا "خطايا ضعف" و"خطايا عرضية" "لا تمحو توجيهَ الكائنِ
الأساسيَّ نحو الله في النعمة " (المعجم ص124).
ج) هل ان خطايانا اهانة الله؟
هل ان عدم طاعة الطفل اهانه
لأمه؟ "فأقبل انت ان تكون هذا الطفل الصغير" (راجع أعلاه ص13: القديسة تريزة). أكيد
ان خطايانا تلمس قلب الله. كيف ذلك؟ أولاً لأننا نشوّه خليقته (فينا أو في الاخرين)
وبهذا المعنى يشرح اللهوتيون عبارة "اهانة الله" وأكثر الأوقات. فأذا بمعتى مخفف.
ولكن لانستطيع ان ننسى أن الله، بصورة تتجاوز ادراكنا البشري، غير عديم الاحساس
بالنسبة الى تقصيراتنا تجاه حبه. غير انه يرى في قلوبنا ندامتنا العميقة فتغطي
رحمتهُ عنه كل احساس بالاهانه، حسب تعليم الكتاب المقدس نفسه (راجع اعلاه ص11/2:
هوشع). ولكن كلما سنحب نحن أكثر سنتجب أن "نحزِن روحَ الله القدوس" (اف4/30).
اذاَ كانت علة الزهد الرئيسية
مقاومة الخطيئة فله ايضا غايات أخرى، منها:
1) الاشتراك في آلام المسيح
الخلاصية.
لقد اعتبر البعض انه قد يوجد
ههنا خطر: وهو ان يتدخل في الامر شيء من حب مرضي للألم، وقد يحدث هذا أحيانا. غير
ان الشوق الى مشاركة المسيح في آلامه أحساس روحي موجود عند جميع القديسن، ابتداء من
القديس بولس (راجع فل 3/10) والشهداء. ويبدو أنه لشيء غريزي لدى الحب أن يجعل
المحبَ يريد ان يعيش مثل من يحبه.
2) الانضباط في الحياة (UNE
REGLE DE VIE) يهيء المؤمن نفسياً لقبول عن طيب قلب سر الصليب الذي تُدخِله
الحوادثُ الى حياتنا (مثل المشقات أو التضحيات التي يطلبها حب الله وحب البشر).
اشكال الزهد
ان الزهد بمعناه الأكثر عادي،
يُعير قبل كل شيء الى الانضباط على صعيد الجسد: نظام في الغذاء والكساء والنوم،
مقاومة البرد والحر، واحتمال الألم البدني، الخ...
على الانضباط، في الحقيقة، أن
يدور على الانسان كله وقد نستطيع أن نتأكد من ذلك أذا تأملنا الكفاح الروحي الذي
أجراه المسيح قبل رسالته العلانية. لنقرأانجيل لوقا 4/1-13. فنرى فيه يسوع يصد
تجاربً جرت بالتوالي على مستويات الجسد والنفس والروح. على صعيد الجسد: "ان كنت ابن
الله، فمر هذه الحجارة ان تصير رغيفاً" (= الجوع الجسدي). وعلى صعيد النفس: "أوليك
هذا السلطان كله ومَجدَ هذه الممالك.." (اليس الى التسلط والتملك والكبرياء). ثم
على صعيد الروح: "القِ بنفسك من شرفة الهيكل... والملائكة سيحملونك على ايديهم..."
هنا تدور التجربة على شيء يخص علاقات يسوع الصميمة مع الآب، في اعماق قلبه. فاذا
كان يسوع قد القى بنفسه من اعلى الهيكل كان قد اجبر الاب بذلك على ان يحميه بطريقة
أعجوبية فيتعجب الناس بهذا ويؤمن به فوراَ. ان المسيح رفض هذه الطريقة السهلة
لأجتذاب الناس اليه وبذلك قبل ضمنياً موته على الصليب، واثقاً بحكمة الاب.
يدور اذا الزهد المسيحي على
الانسان كله (جسداً ونفساً وروحاً) ولكن في درجات مختلفة من العمق حسب الصعيد الذي
يجري فيه. ان الزهد المعاصر قد انتقل بصورة واضحة من صعيد الجسد الى الانضباط
النفسي والى البحث عن صدق عميق على صعيد الروح. فاننا نلاحظ عند الفكرين المعاصرين
نوعاً من الحذر تجاه الزهد الجسدي. فانهم يخافون ان يتدخل فيه شيء من
"تقليدالملائكة" (ANGELISME) اي شيء من الرفض البشري الجسدي، وشيء من آثار
الثنائية الافلاطونية (احتقار الجسد باعتباره سجن النفس اوقبرها). غير اننا دون ان
نقع في مثل هذا الانحراف، انه من الضروري ان يسيطر الانسان على جسده الى اكبر درجة
ممكنة. وذلك، على الاقل، لأجل ممارسة افضل للمحبة الانجيلية. كتب Y. DE MOUCNEUIL
في هذا الصدد: “ان ممارسة المحبة تفترض التحكم بالجسد وان نستطيع أن نطلب منه أشياء
مؤلمة. فالكسل والخمول وحب الرفاهية المستمر ستمنع المرء دوماً من اتخاذ المواقف
التي تطلبها محبة الله او محبة القريب". مهما يكون من الامر فاننا نركز الآن اكثر
على اكتساب الفضائل الداخلية (النفسية) كالصبر والتواضع والاهتمام بتفهم الآخرين
والكفاح ضد الحسد والحقد الخ... كان الزهد المسيحي في بدايته قد تأثر ببعض المفاهيم
الفلسفية عن الانسان المقسوم بين ميول الجسد (التي كانت تعتبر غير جيدة) وميول
"العقل" (التي كانت تعتبره جيدة). فالهدف المقصود كان انذاك اخضاع الجسد للعقل. غير
اننا نحس الآن بصورة أوضح أنه لا يكفي أن نضمن للشخص توازنه العملي بأخضاع الأهواء
للعقل. فالشيء الاساسي، والذي يهييء حقا المرء لعمل الروح القدس فيه، هو ان يتغير
اتجاه الانا بصورة عميقة فيتفتح لعطاء الذات للأخرين، لأن عمل الروح القدس يفترض ان
يكون الشخص مستعداً للمقاسمة ومتفتحاً لحاجات الاخرين وان يحيي حياته حبٌ نزيه أكثر
فأكثر من روح التملك (AMOUR POSSESSIF & Amour OBLATIF) وما ننويه الآن هو تربية
النفس بحيث تستطيع أن تدخل في حوار حقيقي مع غيرها. فالحوار ليس شيء فطرياً في
الانسان. بل على المرء أن يتفتح له تدريجياً ويمر من موقف المنافسة الغريزي الى حب
الإيثارى (ALTRUISTE).
ولنفس الغرض، أي لتطوير
علاقات انسانية أكثر استقامة، يحبذ على صعيد زهد النفس انضباط المشاعر والميول
العاطفية.
لقد أدخَلنا الكلام عن اصلاح اتجاه الذات الاساسي الى زهد الروح. فنسيان الذات،
النابع من أعماق الكائن، لايستطيع أن يتم بصورة جذرية الا بعمل الروح القدس، وإن
كنا قد تهيئنا له بممارسة الحوار على صعيد النفس. ومن هنا أهمية "تفتح القلب" أمام
الله بالروح (روح الانسان) الذي هو "مفتاح القلب" (حسب قول أحد المتصوفين الشرقيين)
وأهمية زهد النية العميقة. ويفترض ذلك، بصورة عملية، مراجعة حياة موضوعية، خارقة،
بصدق كامل ومؤلم أحياناً. كما يفترض ذلك ممارسة الصلاة العميقة التي هي كعرض القلب
لاشعاع الروح القدس ليُطهره من الأنانية والتركز على الذات. ان الصلاة نفسها ممكن
ان تعتبر زهداً "زهداً جسدياً" (انها متعبة أحياناً)، ونفسيا (بسبب جهد التركيز
الذي قد تطلبه والذي يناقض ميل الانسان الى التشتت في خارج نفسه)، وزهداً روحياً
أيضاً (على صعيد روح الانسان) باعتبارها مدخل الى سر"فقدان النفس" الذي يطلبه
المسيح (لو9/24 راجع اعلاه ص17). فالعمل هو دوما إثبات الذات، في وقت أن الصلاة في
شكلها الاعمق هي نسيان الذات امام عظمة وبهاء قداسة الله. وانها في هذا الاتجاه يجب
ان نرشد صلاتنا فنجعل منها نظراً الى الله وحده: ليتقدس اسمك. هذا الوجه من الصلاة
وهو وجهها الاكثر روحية، ليس بالطبع وجهها الوحيد كما سنرى فيما بعد.
لنذكر ايضا نقاطاً أخرى يدور
عليها الزهد الروحي، في علاقتنا مع الله مع الناس. فمثلاً في علاقتنا مع الله:
مكافحة التجارب ضد الايمان والثقة بحب الله لنا وللبشر عموماً، بالرغم من الظواهر
المعاكسة كالمشقات والحروب، أو خطايانا نفسها التي تجعلنا نحس أننا لانستحق حب
الله. وفي علاقتنا مع الناس: أن نجتهد لنعتبر كل واحد منهم ابناً لله وموضوع حبه.
وحت الذين يؤذوننا: ان نرى فيهم خطأة مثلنا، في مسيرتهم نحو الله.
أن كل هذا الزهد المطلوب من
المؤمن يقوم على هذا المبدأ: إن الله يريد أن يشرك النسان في عمل تقديسه. انه
"الطابع التعاوني بين الله والانسان. ففي عمل تقديسنا توجد اولا مبادرة الله نفسه:
"هاءنذا واقف على الباب اقرعه.." (رؤ 3/20). ثم على الانسان أن يفتح (بروحه) باب
قلبه. واذا تم ذلك فروح الله يحرضنا من الداخل الى الاعمال الصالحة، وخاصة أعمال
المحبة، وعلينا ان نستجيب الى تحريضات الروح القدس بجهدنا (الزهد) وسيرافقنا عونه.
ان هذه الاستجابة هي عمل طويل وكثيرا ما لاننقاد بدوافع الروح القدس الداخلية. ولكن
الشيء الاساسي هو ان نحفظ أرواحنا متوجهة نحو الله ومتفتحة له في أعماق ضمائرنا،
بالرغم من ضعفنا العملي. اذا فعلنا ذلك فسيكون من المستحيل أن نترك لمدة طويلة
مجهودنا الزهدي.
لقد ظهر في تاريخ الحياة
الروحية المسيحية موقفان متطرفان بخصوص الزهد.
1) البلاجيانية من اسم
بلاجيوس (Pelagius) مبدع هذا المذهب في اوائل القرن الخامس. ان هذا المذهب ينظر الى
حرية الانسان كسلطان مستقل تماما يستطيع أن يحفظ شريعة الله بذاتِهِ وبدون حاجة إلى
نعمة الله (راجع كارل راهنر المعجم ص 60).
2) الطمأنينيّة. أن هذا
المذهب على عكس المذهب السابق، يضع الكمال في أن نُحب الله حباً نزيهاً من كل
اهتمام بذواتنا وحتى بخلاصنا. فلهذا كان اتباعهُ كثيراً ما يهملون الزهد وحياة
الطلب المرتكزين على الذات. وكانوا يعتقدون أن النسان كلما قلّ جهدهُ الشخصي زاد
استعدادهُ لقبول تأثير الروح القدس. (نجد هذه النزعة "الروحية" في الشرق الوسط في
القرن السادس عند الميصليين (المُصلون) وفي الغرب في القرن السابع عشر.
بين هذين الموقفَين
المتطرفَين (الذَين ادانتهما الكنيسة) توجد (داخل الكنيسة) "مدارس" روحية مختلفة
تركز اقل او أكثر على أحد الوجهين (اي جهد الأنسان أو الأعتماد على قوة الروح
القدس) حسب العصور والبلاد والمفاهيم الثقافية العامة أو التقاليد الخاصة للرهبنات
المختلفة.
وفي الوقت الحاضر وخاصة منذ
كتابات القديسة تريزة للطفل يسوع ومنذ تقدم علم النفس التحليلي، يميل المؤلفون
الروحانيون الى الأعتماد على التفتح العميق الصادق لعمل الروح القدس اكثر منهم على
نجاح عمل الأنسان على صعيد الزهد الملموس (دون استخفاف عمل الأنسان، لأن المسألة،
هنا ايضاً، هي مسألة تركيز على وجه دون غلغاء الاخر).
" ان آباء الكنيسة لا
يعلموننا الأقتداء بالمسيح بقدر ما يعلموننا ان نجعلهُ يعيش فينا "
|