”بهذا أظهرت
محبة الله فينا”. أنظروا فها لنا قوة دفع وتشجيع لمحبة الله. هل يمكن أن نحب الله
إن لم يكن هو قد أحبنا أولاً؟ إذا كنا متباطئين في المحبة، فلا يجب أن نكون
متباطئين في مبادلة الله بالمحبة. هو أحبنا أولاً، وليس كما نحب نحن. هو أحب
الأشرار وقضى على الشرور. أحب الأثمة، وطهرهم من آثامهم. أحب المرضى وزارهم
ليشفيهم. لذلك ”الله محبة، بهذا أظهرت محبة الله فينا أن الله قد أرسل ابنه الوحيد
إلى العالم لكي نحيا به” (1 يو4)، وكما يقول الرب نفسه: "ليس لأحد حب أعظم من هذا
أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه" (يو 15)، وهكذا قد تبرهنت محبة المسيح لنا بموته من
أجلنا.
كيف ظهرت محبة
الآب لنا؟ لأنه أرسل ابنه الوحيد لكي يموت عنا، لذلك يقول الرسول بولس أيضاً: "الذي
لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا اجمعين كيف، لا يهبنا أيضاً معه كل شيء" (رو 8).
أنظروا أن
الآب قد اسلم المسيح للموت، ويهوذا أيضاً اسلم المسيح. هل يبدو أن الفعلين
متشابهان؟ يهوذا هو خائن، فهل الآب هكذا؟ حاشا لله.
لم أقل أنا
ذلك بل الرسول هو الذي يقول: "الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا اجمعين". الآب
اسلم الابن، وهو نفسه اسلم ذاته. ونفس الرسول يقول: "الذي احبني واسلم نفسه لأجلي"
(غل 2). إذا كان الآب قد اسلم ابنه، والابن اسلم ذاته. فما الذي فعله يهوذا؟
هنا تسليم من
الآب وتسليم من الابن وتسليم فعله يهوذا. الفعل واحد ولكن ما الذي يميّز بين تسليم
الآب للابن، وتسليم الابن لذاته، وتسليم التلميذ يهوذا لمعلمه؟ الفرق هو أن الآب
والابن فعلوا ذلك بالمحبة، ولكن يهوذا فعل ذلك بالخيانة.
يظهر من ذلك
إذاً أن المهم ليس الفعل الذي يفعله الانسان في حد ذاته، ولكن المهم بأي نية وقصد
هو يعمله. نجد الله الآب في نفس الفعل الذي فعله يهوذا، لكننا نبارك الآب ونمقت
يهوذا. لماذا نبارك الآب ونمقت يهوذا؟
إننا نمجد
المحبة ونلعن الإثم.
فما أعظم
الخير الذي أنعم على البشر من تسليم المسيح!
ولكن هل كان
في نية يهوذا ذلك عندما اسلم المسيح؟ الله قصد خلاصنا الذي به أفتدينا، ويهوذا تطلع
إلى الثمن الذي به باع الرب. الابن نفسه فكّر في الثمن الذي دفعه عنا، ويهوذا فكّر
في الثمن الذي قبضه لكي يسلمه. فالقصد المختلف جعل الأفعال نفسها مختلفة. بالرغم من
أن العمل واحد، ولكن إذا قيمناه بحسب القصد والنية نجد أن عملاً منهما محبوب والآخر
مدان، عملاً منها ممجد والآخر ملعون.
ما أعظم القوة
التي للمحبة. أنها وحدها التي تُفرّق وتميّز. أنها وحدها التي تفرز أعمال الإنسان.
قلنا هذا فيما
يتعلق بالأعمال المتشابهة. أما في حالة إختلاف الأعمال، قد نجد شخصاً بالمحبة يثور،
وآخر بالجور يتودد. الأب يضرب ابنه، أما تاجر العبيد (الذي يود خطفه) فيلاطفه. إذا
تكلمنا عن الضرب والملاطفة، فمن لا يختار الملاطفة ويهرب من الضرب؟ إذا نظرنا إلى
الشخص الذي يتمم العمل، نجد أن المحبة تجلد، أما الظلم فيتودد ويلاطف. لاحظوا ما
نوضحه، فأعمال الإنسان يتم التمييز بينها فقط من خلال جذر المحبة، لأنه توجد أعمال
كثيرة لها مظهر حسن في الخارج، ولكنها لا تنبع من جذر المحبة. بل حتى الأشواك لها
أزهار. بعض الأعمال تبدو خشنة أو قاسية، لكنها تُعمَّل للتأديب تحت توجيه المحبة.
لذلك أقدم لكم
وبشكل حاسم وصية قصيرة:
أحبب وأصنع ما
شئت
إذا كان عليك
أن تسكت، أسكت بدافع المحبة
إذا كان عليك
أن تصرخ ، أصرخ بدافع المحبة
إذا كان عليك
أن تصحِّح وتقوِّم الآخر، قوِّم بدافع المحبة
إذا كان عليك
أن تصفح، أصفح بدافع المحبة
أجعل جذر
المحبة داخلك، فلا يبزغ من هذا الجذر إلا كل شيء صالح.
"بهذا أظهرت
محبة الله فينا أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به. في هذه هي
المحبة، ليس أننا أحببنا الله بل أنه هو أحبنا". لم نبدأ نحن أولاً بمحبته، لأنه قد
أحبنا لهذا الغرض: لكي نحبه. "وأرسل ابنه كفارة عن خطايانا" (1 يو 4). كفارة معناها
أنه قدم نفسه ذبيحة. لقد قدَّم ذبيحة لأجل خطايانا. أين وجد هذه الذبيحة؟ أين وجد
الذبيحة النقية التي أراد أن يقدمها؟ لكونه لم يجد ذبيحة أخرى، قدَّم ذاته. "أيها
الأحباء، إن كان الله قد أحبنا هكذا ينبغي لنا أن يُحب بعضنا بعضاً" (1 يو 4). قال
لبطرس: "أتحبني؟"، وبطرس أجاب "أنا أحبك"، فقال له: "أرعى خرافي".
"الله لم
ينظره أحد قط". الله غير مرئي، نستطيع أن نراه لا بالعينين لكن بالقلب. عندما نريد
أن نرى الشمس ننقي عيوننا لنرى النور، هكذا أيضاً إذا أردنا أن نرى الله يجب علينا
أن ننقي العين التي يمكن أن نراه بها. ما هي هذه العين؟ لنسمع الإنجيل: "طوبى
لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 5). يجب أن لا يتخيل أحد الله كما يصوره له
خياله. ربما يتصوره شكلاً ضخماً، أو يمتد بخياله في الأماكن والحقول إلى أبعد أمد،
أو ربما يتصوره شيخاً له هيئة وقورة. يجب ان لا تتخيل أية صورة من هذه الصور.
هذا هو ما يجب
أن تتصوره إن أردت أن ترى الله: الله محبة.
أي نوع من
الوجوه يمكن أن يكون للمحبة؟ أي شكل لها؟ أي نوع من القوام يكون لها؟ أي نوع من
الأقدام يكون للمحبة؟ أي نوع من الأيدي؟ لا يمكن لأحد أن يجاوب.
وبالرغم من
ذلك،
المحبة لها
أقدام، تحمل الإنسان إلى الكنيسة.
المحبة لها
أيادي تمتد وتصل إلى الفقراء.
المحبة لها
أعين ترى بها المحتاجين. "طوبى للذي ينظر إلى المسكين" (مز40)
المحبة لها
أذان، يقول عنها الرب: "من له أذنان للسمع فليسمع"
هذه أعضاء لا
تحدها أماكن أو أشكال، لكن من له المحبة يدركها كلها. أسكن فيها تسكن فيك. وأثبت
فيها تثبت فيك.
والآن يا
أخوتي، من يقدر أن يحب من لا يراه؟ لماذا حين نمدح المحبة تصيحون وتصفقون؟ ماذا
رأيتم؟ ماذا قدمت أنا لكم؟ هل قدمت لكم فضة أو ذهباً؟ هل أخرت لكم جواهر من منجم
عميق؟ ماذا أريتكم؟ هل تغير شكلي وأنا أتكلم؟ أنا في الجسد، في نفس الهيئة التي
أتيت بها إليكم، وأنتم في نفس الهيئة التي أتيتم بها إلى هنا. المحبة تُمتدح وأنتم
تصيحون. لكن إذا كان مدح المحبة يسركم هكذا، فليسركم بالأكثر حفظها في قلوبكم.
انتبهوا يا
أخوتي لما أقوله، فأنني أحثكم وأرشدكم – حسبما يعطيني الله – إلى كنز عظيم. إذا رأى
أحد فيكم زهرية جميلة مزينة ومطعمة بالذهب، جذابة مبهرة للعيون وقد انجذبت قلوبكم
بالرغبة الشديدة إليها، وقد أعجبتكم يدا الصانع ومقدار التطعيم بالفضة وعظمة
المعادن. ألا يقول هذا في نفسه: "آه لو أمتلك تلك الزهرية!"، وعبثاً يتمنى ذلك
لأنها ليست له، أو ربما إن أراد أن يقتنيها يفكر في سرقتها من بيت صاحبها.
والآن قد مدحت
المحبة أمامكم، فإذا كنتم قد سررتم بها خذوها، امتلكوها، ليست هناك حاجة لسرقتها من
إنسان ما، ليست هناك حاجة لشرائها. أنها تُمتلك مجاناً بلا ثمن. أمسكوها وعانقوها،
فلا يوجد شيء أحلى منها. إذا كان الأمر هكذا حلواً ونحن نتحدث عنها فكم يكون إذا
امتلكها الإنسان؟!
إذا أراد أحد
منكم أن يحفظ المحبة، فأول كل شيء يجب ألا يفترض أنها شيء تافه أو غير نشط، أو أن
المحبة يمكن أن تحفظ بنوع من اللين والرقة، بل بالأحرى تحفظ بالشدة وعدم الاعتناء
الزائد. ليس كذلك تُحفظ المحبة. لا تظن أنك تحب عبدك حين لا تعاقبه، أو أنك تحب
ابنك حين لا تؤدبه، أو أنك تحب قريبك حين لا تُصححه. هذه ليست محبة بل لامبالاة.
أجعل المحبة تشعلك بالغيرة للإصلاح والتقويم. إن كان هناك شيء صالح دعوا المحبة
تفرح به، ولكن إن كان هناك شيء رديء دعوا المحبة تقوِّم وتصلح. لا تحبوا أخطاء
الإنسان، وإنما الإنسان نفسه، لأن الله خلق الإنسان ولكن الخطيئة هي من صنع الإنسان
نفسه. أحبوا إذا الذي خلقه الله ولا تحبوا ماهو من صنع الإنسان. إذا أحببتم الأول
(الإنسان) فسوف تزيلون الآخر (الخطأ)، إذا أحببتم الأول فسوف تقوّمون الآخر. وحتى
إن غضبتم في وقت من الأوقات، فليكن غضبكم من أجل الإصلاح.
لهذا، تجلت
المحبة من خلال الحمامة التي نزلت على الرب، لأنه في شكل الحمامة حلَّ الروح القدس،
الذي به تنسكب المحبة فينا. كيف نفهم ذلك؟ الحمامة لا يوجد عندها حقد أو ضغينة،
ولكنها تحارب عن صغارها بالمنقار والجناحين، فهي تُعبِّر عن الغضب لكن بلا مرارة.
الأب أيضاً يفعل ذلك حينما يؤدب ابنه، فهو يؤدبه حتى ينضبط. وكما قلت، الخاطف يلاطف
الطفل لكي يخطفه ويبيعه برقة باطنها مُر، ولكن الأب يؤدب ابنه لكي يصلحه بلا مرارة.
لنكن نحن أيضاً هكذا مع الجميع. فهذا مثل ودرس عظيم. كل إنسان منكم له أولاد أو
يتمنى ذلك، وإن كان قد قرر أن لا يكون له أولاد بشكل جسدي فهو على الأقل يتمنى أن
يكون له أولاد روحيين. أي أب لا يقوّم أبنه؟ وأي ابن لا يؤدبه أبوه؟ حتى ولو كان
يبدو عليه الغضب والحزم. هنا المحبة تعبر عن ذاتها بالغضب، هنا محبة نقية تعبر عن
ذاتها بالحزم. أنها تغضب بإسلوب ما ليس فيها مرارة، بإسلوب الحمامة لا بإسلوب
الغراب. |