الضيافة فن،
فالتأكد من الترحيب بالضيف وإكرامه وتقديم الطعام له، يستلزم قدرة على الابتكار
والتنظيم. فاستطاعة مريم ومرثا القيام بكل ذلك تضعهما على قمة من أحسنوا القيام
بالضيافة في الكتاب المقدس. وكان ضيفهما في أغلب الاحيان هو الرب يسوع المسيح، فقد
كانتا ملتصقتين به تخدمانه حين كان حاضرًا بالجسد، وقد شكلتا مع شقيقهما لعازر الذي
اقامه الرب يسوع من بين الاموات، افرادا للاسرة التي كان الرب يحبها ويمكث معها
كثيرا.
كانت الضيافة
تعني، عند مريم، الانتباه للضيف نفسه أكثر مما لاحتياجاته. فقدعُرفت بجلساتها
الهادئة عند قدميّ المخلّص تسمع له وتتحدّث معه، فكانت تفضل الحديث عن الانشغال
بالطبخ، وتهتم بكلمات ضيفها أكثر من العناية بنظافة بيتها، أو مراعاة موعد
الوجبات، فقد تركت لأختها الكبرى "مرثا" والتي غالبا ما كانت ترتبك بخدمات كثيرة،
القيام بتلك التفاصيل. فَتَصَرُف مريم في ذلك المقام، يثبت انها كانت "مستمعة
جيدة". لقد قامت بالقليل من الاستعدادات إذ كان دورها هو المشاركة، لقد عرَفت كيف
تبيع كل شيء لتقتني اللؤلؤة الكثيرة الثمن. ومع ذلك، وعلى النقيض من اختها التي كان
عليها أن تتعلّم كيف تقف وتصغي، كانت مريم في حاجة إلى أن تتعلم أن العمل كثيراً
ما يكون ملائما وضرورياً. لان على المؤمن المسيحي ان يحمل في قلبه فكر مرثا ملتحمًا
بفكر مريم، فلا جهاد حق خارج حياة التأمُّل، ولا حياة تأمُّل صادقة بلا عمل! حقًا
لكل عضو موهبته، فمن الأعضاء من يحمل طاقة عمل قويَّة قادرة على الحركة في الرب على
الدوام. ومنهم من يحب الهدوء والسكون ليحيا في عبادة وتأمُّل. ولكن يلزم على الأول
وسط جهاده أن يتمتَّع بنصيب من الحياة التأمُّليَّة اليوميَّة حتى لا ينحرف في
جهاده، ويليق بالثاني أن يُمارس محبَّته عمليًا بالجهاد، إن لم يكن في خدمة منظورة،
فبالصلاة على لسان الكنيسة كلها بل ومن أجل العالم كله.
أول
تَعَرُفَنا بمريم عندما زارها الرب يسوع في بيتها، فجلست ببساطة عند قدميه تصغي
لكلامه "وبينما هم في الطريق، دخل يسوع احدى القرى، فاستقبلته إمرأة اسمها مرثا في
بيتها، وكان لها اخت اسمها مريم، جلست عند قدمي يسوع تسمع كلمته" (لو39,38:10).
وعندما ثارت مرثا لتقاعس اختها في مساعدتها بقولها: "يارب أما تبالي بان أختي قد
تركتني أخدم وحدي؟ فقل لها ان تساعدني" (لو40:10) أعلن لها الرب يسوع أن اختيار
مريم الاستماع اليه، كان أكثر التصرفات ملاءمة في ذلك الوقت، قائلا لها: "أنت مهتمة
وقلقة لأمور كثيرة. ولكن الحاجة هي الى واحد، ومريم قد أختارت النصيب الصالح الذي
لن يُؤخذ منها" (لو42,41:10). بعدها وفي حادثة موت اخوها لعازر، وعند سماعها بمجيء
الرب يسوع، نراها مرة اخرى مرتمية عند قدميه وباكية "فلما سمعت مريم هبّت واقفة
وأسرعت الى يسوع. وما أن وصلت الى حيث كان يسوع ورأته، حتى أرتمت على قدميه تقول:
ياسيد لو كنت هنا، لما مات أخي" (يو 29,30:11).
وآخر مرة نرى
فيها مريم نكتشف أنها قد أصبحت امرأة ناضجة الفكر وصادقة العبادة، فبينما كانت
الأحداث تتكاتف معًا لتحقيق الفِصح بالصليب، الأمر الذي من أجله تجسّد ابن الله.
نراها مرة ثالثة عند قدمي يسوع تغسلهما بالطيب وتجففهما بشعر رأسها. ففي بيت عنيا
"بلدة لعازر" تقدّمت لتسكب قارورة طيب كثير الثمن وهو متكئ "كنبوّة عن تكفينه"
(مت13,1:26; مر9,1:14 ; يو8,1:12 ) وكأن ما فعلته يمثّل عمل محبّة تقدّمه
الكنيسة كلها لهذا الجسد الطاهر، الذي قَبِلَ الموت بإرادته من أجل خلاصها،
مُظهِرَة بذلك بأنها أكثر فهما، حتى من التلاميذ، لحقيقة موت المسيح. فمن خلال
لقائها المستمر مع السيِّد تعرَّفت على سرّ الصليب وأدركت موته وتكفينه، لا كأحداث
تاريخيَّة تترقبْها في تخوُّف واضطراب، وإنما كأعمال إلهيّة فائقة. لهذا كانت تبذل
كل الجهد أن تدَّخِر كل ما يمكن ادِّخاره لتقدِّم قارورة الطيب الكثيرة الثمن في
الوقت المناسب وفي المكان المناسب. فقد كان توقيت اللقاء دقيقًا للغاية، حيث جاء
بعد إقامة لعازر شقيقها من الأموات كتقدّمة شكر. فرحت بإقامة أخيها من القبر، فجاءت
بإرادتها لكي تُدفن هي مع عريسها في القبر المقدَّس وتقوم به وفيه. في آخر يوم يأتي
فيه السيِّد إلى بيت عنيا، إذ كان ذلك يوم الأربعاء بعد تشاور القادة اليهود لقتله،
ولم يبق سوى خميس العهد حيث يُقبض عليه لمحاكمته وصلبه، فلو تأخَّرت يومًا واحدًا
لَمَا نالت هذه الكرامة العظيمة، و لَمَا استحقَّت أن تتنبَّأ عن تكفينه. فرغم
انتقاد الناس لها تمتعت بمديح الرب نفسه الذي أعلن ارتباط قصتها بالكرازة بإنجيله
في العالم كله كمثال للخدمة المكلفة! "والحق اقول لكم: إنه حيث يُبَشَر بالانجيل
في العالم أجمع، يُحَدَّث أيضا بما عملته هذه المرأة، إحياءً لذكرها!" (مت13:26 ;
مر9:14).. إنه بالروح الإلهي أدركت في أعماقها الوقت اللائق للالتقاء به بهذه
الصورة الفريدة.
فما نوع
الضيافة التي يلقاها الرب يسوع في حياتك؟ هل كل همك أن تخطط وأن تسعى في حياتك، حتى
انك تهمل قضاء أوقات ثمينة معه؟ أم أنك تستجيب له بالاصغاء إلى كلمته، وهكذا تجد
سبلا لعبادته في حياتك؟ هذا هو نوع الضيافة التي يتوق اليها كل واحد منا.
منجزاتها ونواحي القوة في شخصيتها:
-لعلها الشخص
الوحيد الذي فهم وتقبل موت الرب يسوع الوشيك، وانتهزت الفرصة لتدهن جسده وهو ما
زال حياً.
-كانت تعرف
متى تصغي ومتى تعمل.
دروس من حياتها:
-قد يكون
الانهماك في خدمة الله عائقا في طريق معرفته شخصيا: لقد أحبت مريم ومرثا الرب يسوع.
وفي هذه المناسبة كانتا، كلتاهما تخدمانه. إلا أن مرثا لمّحت إلى أن أسلوب مريم في
الخدمة أدنى من أسلوبها هي. ولكن الرب أعلن لها، أن اختيار مريم الاستماع اليه، كان
الافضل، لانها أختارت النصيب الصالح الذي لن يُنَزَع عنها. ففي وقت أو آخر ثِقَل
الواجبات الضروريَّة يُنزع عنك، أما عذوبة الحق فأبديَّة. صالح هو ما فعلته مرثا
بخدمتها للقدِّيسين، لكن الأفضل هو ما فعلته أختها مريم بجلوسها عند قدَّميْ الرب
واستماعها كلمته إذ كانت مرثا تدبِّر الطعام وتعدُّه لتُطعم الرب، كانت منهمكة في
الخدمة جدًا، أما مريم أختها فاختارت بالحري أن يطعمها الرب. إنها بطريقة ما تركت
أختها المرتبكة بأعمال الخدمة وجلست هي عند قدميْ الرب تسمع كلماته بثبات. لقد سمعت
أذنها الأمينة: "كفُّوا واعلموا إني أنا الله" (مز 46: 10). مرثا ارتبكت أما مريم
فكانت متمتِّعة (محتفلة)؛ واحدة كانت تدبِّر أمور كثيرة، والأخرى ركَّزت عينيها على
الواحد.. لم يلم الرب يسوع مرثا على اهتمامها بأمور البيت، لكنه كان يطلب منها أن
تضع أولويات. فمن المحتمل أن تتدهور خدمتنا للمسيح إلى مجرد انشغال بالعمل، الخالي
من التكريس له. وبدون تكريس وتكوين علاقة شخصية معه لايمكن معرفته شخصيا ومعرفة ما
يريد منا فعله. فهل أنت منشغل بأمور تصنعها لأجل يسوع، حتى إنك لا تنفق أي وقت معه؟
انتبه اذا لكي لا تجعل خدمتك لله تتحول إلى خدمة لنفسك. فمن المهم أن تعرف من الذي
تخدمه وكيف تفعل ذلك.
- ان الاعمال
الصغيرة المتميزة بالطاعة والخدمة، لها تأثيرات بعيدة المدى : ذلك ما يؤكده رد فعل
الرب يسوع تجاه الاعمال التي قامت بها مريم، فربما بدت اعمالها صغيرة ولكنها كانت
متميزة والاهم من ذلك انها قدمتها عن ادراك روحي ومحبة صادقة لربها وملكها، وبذلك
كان لاعمالها فعلا تاثيرات بعيدة المدى، ففي العمل الاول اكد الرب يسوع بان النصيب
الصالح الذي اختارته بمنحها اهمية خاصة للاولويات في حياتها، وتركيز انشغالها
بالامور الروحية الابدية اكثر من الامور الدنيوية الزائلة، سوف لن يؤخذ منها، بل
تحتفظ به للحياة الابدية، أما تأثيرعملها الثاني كان اقتران اسمها بالانجيل، فاصبحت
احدى الشخصيات البارزة التي مازال يجري الحديث عنها وعن عملها المميز الذي به نشرت
رائحة المسيح الزكية، في كل بقعة من العالم يُبَشَر فيها بالمسيح يسوع وبانجيله
المقدس.
النزاهة في
الخدمة وعدم ممارسة عمل على حساب آخر: لقد علّق الانجيليون الثلاثة على حادثة كسر
قارورة الطيب الغالي الثمن بتعليقات مختلفة، فبينما ذكر متي بانه "استاء التلاميذ
لما رأوا ذلك" (8:26)، يقول مرقس " استاء بعضهم" (4:14)، اما يوحنا فيبرز سخط يهوذا
الاسخريوطي بصورة خاصة، "فقال أحد التلاميذ، وهو يهوذا الإسخريوطي، الذي كان سيخون
يسوع: لماذا لم يبع هذا العطر بثلاث مئة دينار توزع على الفقراء؟ ولم يقل هذا لأنه
كان يعطف على الفقراء، بل لأنه كان لصا، فقد كان أمينا للصندوق وكان يختلس مما يودع
فيه. فأجابه يسوع: دعها! فقد احتفظت بهذا العطر ليوم دفني، لأن الفقراء عندكم في
كل حين؛ أما أنا فلن أكون عندكم في كل حين" (يو8,4:12).. لقد كان سبب السخط
والاستياء لأن الناردين كان عطرا طيب الرائحة يُستَورد من جبال الهند، لذلك كان
غالي الثمن جدا. إن هذا العمل واستجابة الرب يسوع له يعلمنا امرين مهمين، اولهما:
أن لانتجاهل الفقراء حتى نصنع للمسيح أمورا بالغة التطرف والتهور. فقد كان هذا عملا
فريدا لمناسبة خاصة معينة لدفنه، وبذلك كان تصريحا علنيا بالإيمان بأنه المسيا
(المسيح). ولم يقصد به الرب يسوع مطلقا إهمال الفقراء، او تبريرتجاهل حاجاتهم، بل
من جهة، ليذكّرنا دوما بوجود الفقراء على الارض مشيرا الى سفر التثنية (11:15) الذي
يقول "فالأرض لن تخلوأبداً من الفقراء" فالكتاب المقدس ينبهنا على الدوام للعناية
بالمحتاجين، ومن جهة اخرى ليمتدح مريم لولائها وعبادتها الخالية من الأنانية،
معلماً يهوذا بذلك درسا ثمينا عن قيمة المال. فإنه إشارة خفية للعملين، فمن جهة عمل
يهوذا المختفي وراء تظاهره بحب الفقراء بينما يقوم بتسليم سيده للموت في خيانة
بشعة، والثاني عمل مريم الرائع حيث تلقفت هذا الجسد المُسلم للموت لتكرمه بأغلى ما
لديها "الطيب الكثير الثمن". إنه يوبخ يهوذا سرًا، لأنه يدعي حب الفقراء، ويكرم
مريم، لأنها وجدت فرصة لاتتكرر، فإن جوهر عبادة الله هو أن ننظر إليه بكامل الحب
والولاء والاحترام والتكريس وأن نكون على استعداد للتضحية من أجله بأثمن شيء. ومن
ثم علينا أن لا نمارس عملاعلى حساب الآخر، فحبنا للفقراء يتناغم مع حبنا للقديسين
الذين لا يزالوا أحياء يمارسون الحب لله كما لكل البشرية بالصلاة والشكر الدائم.
ولا تزال مريم تدعونا أن نُطَيِّب جسد المسيح الحي في أعضائه الفقراء والمساكين
والمتألمين والمطرودين والذين ليس لهم من يسأل عنهم.. والأمر الثاني الذي نتعلمه
هو: ان تكون أساليبنا ودوافعنا في الخدمة نزيهة ونابعة من تقوانا في الرب، فكما
لاحظنا لم يكن غضب يهوذا على ما عملته مريم، لانه يحمل حنوًا على الفقراء، او يهتم
ويبالي بهم، بل بدافع الجشع ولتكون له فرصة لسرقة المال، ولاشك في أنه كان يريد أن
يباع الطيب ليوضع ثمنه عنده. ولذلك فعندما دانها حاسبًا أنها تصرفت بغير حكمةٍ،
وبددت المال فيما لا ينفع، مستخدما ًعبارة تفيض بالتقوى ليخفي دوافعه الحقيقية، إذا
بالرب يسوع العارف بما في قلبه، يعلن بانه عملٍ روحي نبوي فائق، لانها بذلك تنبأت
عن تكفينه. إن معرفة الله بنا وبدواخلنا لابد أن تجعلنا حريصين على ان تتفق أعمالنا
مع أقوالنا.
بياناتها الأساسية:
مكان اقامتها
: بيت عنيا.
اقرباؤها:
أختها مرثا وأخوها لعازر.
الآية الرئيسية:
"فإتها إذ
سكبت العطر على جسمي فقد فعلت ذلك إعداداً لدفني. والحق أقول لكم: إنه حيث ينادى
بهذا الإنجيل في العالم أجمع، يحدَّث بما عملته هذه المرأة إحياء لذكرها" (
مت13,12:26 ).
ونجد قصة مريم
في ( مت13,6:26; مر9,3:14; لو42,38:10; يو45,17:11 ; 11,1:12 ). |