إن سر الملكوت، المتحقّق في شخص يسوع والمقدم في إطار من الجدة، لا يمكن ظهوره إلا
تدريجياً، وبموجب طاقات المستمعين المختلفة لتقبل المثل. من أجل هذا نرى يسوع في
الحقبة الأولى من حياته العامة يوصي بجعل" السر المسياني بشهادة مرقس البشير بنوع
خاص (مرقس 1: 34- 43، 3: 12، 5: 43...). من أجل ذلك أيضاً فالإنجيل يفضّل استعمال
الأمثال التي فيما هي تعطي فكرة أولى عن تعليمه، تدعوه إلى التفكير، وتحتاج إلى
تفسير لفهمها فهماً تاماً. وهكذا نصل إلى تعليم ذي درجتين، يشير مرقس إليهما إشارة
واضحة (4: 33 - 34 ) فالالتجاء إلى موضوعات مألوفة (موضوع الملك، وحفل العرس،
والكرمة، والراعي، والبذار...) يضع مجموع المستمعين على الطريق، غير أن للتلاميذ
الحق في تعميق التعليم الذي يقدمه لهم يسوع نفسه. وفيما تذكرنا أسئلتهم بتدخل أصحاب
الرؤى في العهد القديم (متى 13: 10- 13 و34- 35 و36 و51، 15: 15، راجع دانيال 2:
18-19، 7: 16). وعلى هذا تبدو الأمثال وسيلة ضرورية لانفتاح العقل على حقائق
الإيمان: فبقدر ما يدرك المؤمن السر الموحى به، يسهل عليه فهم الأمثال، وبالعكس،
بقدر ما يرفض الإنسان رسالة يسوع، يجب عليه فهم أمثال الملكوت. ويدخل الإنجيليون
هذا الواقع، بعد أن أدهشتهم قساوة كثير من اليهود إزاء الإنجيل، فيهم يشيرون إلى
جواب يسوع على التلاميذ، مستشهداً بآية من إشعيا: فتبرز الأمثال مغلقة على الذين
بإرادتهم يرفضون الانفتاح على رسالة المسيح (متى 10:13-15//). ومع ذلك فإنه، إلى
جانب هذه الأمثال القريبة الصلة بالرؤى، توجد أمثال أخرى أكثر وضوحاً، ترمي إلى بث
تعاليم خلقية في متناول إدراك الجميع (لوقا 8: 16- 18، 10: 30- 37، 11: 5- 8).
تفسير الأمثال
بالرجوع إلى ذلك الإطار الكتابي والشرقي، الذي تكلم فيه يسوع، وإذ نأخذ في الاعتبار
رغبته إلقاء تعليمه تدريجاً، يسهل علينا أمر تفسير الأمثال الني أخذت مادتها من
واقع الحياة اليومية العادية، وبنوع خاص من أحداث التاريخ المقدس الكبرى. أما
موضوعاتها الرئيسية وقد يسهل اكتشافها، فهي، في الزمن الذي يستخدمها فيه يسوع،
محمَلة بالمعاني، بسبب ارتباطها بالعهد القديم. فلا يدهش القارئ إذا رأى شيئاً
مختلقاً في قصة مؤلفة بحريّة، ومحددَة بجملتها للتعليم، كما أن عليه ألا يزعج من
موقف بعض أشخاص لا هدف لهم إلا تعزيز برهان عن طريق الفاضل أو التضاد (راجع لوقا 1:
1- 8، 18: 1- 5). على أيّ حال، فإن من الواجب إبراز طابع العلاقة بالله، وبالمسيح
بنوع خاص الموجود في غالبية الأمثال. لكن مهما كانت درجة دقة المجاز، فإن الشخص
الرئيسي يجب أن يشير في نهاية الأمر وفي أغلب الأحوال إلى الآب السماوي (متى 21:
28، لوقا 15: 11) أو إلى المسيح نفسه، سواء أكان في رسالته التاريخية (1 الزارع
راجع متى 13: 3 و24 و31//) أو في مجده الآتي "اللص" الوارد في متى 24: 43، "السيد"
في متى 25 : 14، والعريس " في متى 25: 1)، وعندما يكون هناك شخصان رئيسيان فهما
الآب والابن (متى 0 2: 1- 6 1، 1 2: 33- 37، 22: 2). وهذا ما يوضح أن إعلان حب الآب
للبشر المشهود له بإرسال ابنه إلى العالم هو الوحي الأسمى الذي أتى به يسوع. هذا هو
هدف الأمثال التي تظهر اللمسة الأخيرة التي يعطيها الملكوت الجديد لقصد الله بخصوص
العالم. |