الأركيذياقون د. خوشابا كوركيس
ب: اختتام المجمع
- انسحاب نسطوريس: في الفترة بين مغادرة مبعوثي كلا الفريقين ووصولهم إلى خلقيدونيا، استلم نسطوريس تعليمات من الإمبراطور يطالبه بالاستقالة والانسحاب إلى ديره الذي توجه منه إلى القسطنطينية قبل نحو ثلاث سنوات. وكان هذا المرسوم رداً على طلبه الذي تقدم به إلى الإمبراطور، حينما دعي المبعوثين لمقابلة الأخير. كما أنه كان أمراً مقتضباً صدر باسم رؤساء المقاطعات، هذا وقد اصطحب نسطوريس ركب من حرس الحماية إلى دير القديس يوبريبوس القريب من انطاكيا، وسمح له بحق اختيار طريق رحلته بحراً أو براً. وأعرب له الإمبراطور عن تمنياته الصادقة المستقبلية وعن ثقته بأنه (نسطوريس) سوف لن يشعر ومن خلال حكمته بالملل. لقد تجلت عظمة سلوك نسطوريس في معرض رده على المرسوم الإمبراطوري أعلاه إذ لم يثر ضده، وذلك لأنه صدر بناء على طلبه من جهة، ولأنه كان رجلاً يتمتع بحياة رهبانية من جهة أخرى، الأمر الذي كان يملؤه الشوق للعودة ثانية إلى ديره والعيش بالهدوء والسلام فيه. ومن الأهمية هنا الإدراك أن استقالة نسطوريس لم تكن بالضرورة حتمية. ولكنها وبطبيعة الحال ربما كانت الوسيلة الوحيدة الممكنة له في تلك المرحلة. ومع هذا فقد رغب بها نسطوريس وقبلها بسرور، خاصة أن تلك الاستقالة كانت مضمونة من قبل الإمبراطور. فلو يتخلى اليوم الخصوم عن التجديف ضد نسطوريس، فإننا سنتمكن من إدراك الحقيقة التاريخية من أن نسطوريس لم يبعد في عام 431م، بل أنه سمح له بالاستقالة وفقاً لرغبته.
ويمكننا ملاحظة ذلك أيضاً، في رسالة نسطوريس الجوابية إلى الإمبراطور، والتي قال فيها بأنه كان ممتناً لهذه الموافقة التي يعتبرها مشرفة. وقد تضمن طلبه الأساسي نشر المرسوم الإمبراطوري في كافة الكنائس بغية نبذ تعاليم قورلوس الكاذبة، وبالتالي منع انتقال العدوى إلى العامة. لقد استقال نسطوريس بسلام دون التشبث بدرجته الكهنوتية الرفيعة، ولكنه كتب في مذكراته بعد مرور جيلين على هذا النزاع المؤسف كتب الكلمات التالية موجه إلى قورلوس:” ….. لقد آلت بي هذه النهاية بسبب عدم استغلالي دعم الكنيسة ولا دعم زعيم البلدة ولا دعم الإمبراطور …. أما أنت فقد كنت أسقف الاسكندرية، وسيطرت على زمام أمور الكنيسة في القسطنطينية، الشيء الذي لم ينله أي أسقف مدينة أخرى مهما كانت جسامة المشاق التي تحملها”1.
- مقابلة في خلقيدونية: قبل وصولهم إلى القسطنطينية، أمر الإمبراطور المبعوثين التوجه إلى خلقيدونيا2 لبحث القضية هناك. وكان في القسطنطينية فريقان أحدهما يساند بطريركها (نسطوريس) والآخر يساند قورلوس الاسكندراني. وقد حفز هذا الاضطراب الإمبراطور على عمل هذا التغيير الطفيف في البرنامج، ورغم أن وثائق هذا الاجتماع لم يحفظها لنا التاريخ الكنسي، فإنه من المحتمل بأن الإمبراطور قد وصل في 11 أيلول 431م. وقد أزعج قول أكاسيوس من ميلتين من فريق قورلوس أثناء المحادثات: ” أن ألوهية المسيح كانت عرضة للمعاناة”. مما أزعج الإمبراطور. وشعر الانطاكيين بأن نصرهم أصبح أكيداً. حيث ملأت قلوبهم البهجة، وأعلنوا مقررات مجمع نيقيا التي تمسكوا بها كمعتقد قويم. ثم شنوا هجوماً عنيفاً على قورلوس، وادعوا أنهم المدافعين عن المعتقد الصائب. وقد أرسل معتقدهم الصادر من مجمع نيقيا إلى أعوانهم الأثينين والأربعون في أفسس، والذي أعيد إلى الإمبراطور. عقد المبعوثون أربع جلسات أخرى مع الإمبراطور، وقد صرح ثيودوريط وزملاءه3 بأن الإمبراطور أمرهم إما رفض تعاليم قورلوس باعتبارها مخالفة للعقيدة القويمة، أو القبول في خوض الكفاح بأنفسهم. وإظهار الكيفية التي يؤيدون بها معتقد الآباء. وتدافع نفس الرسالة عن معتقد الآباء بالصورة التالية:” نحن بالعكس نلتزم بالتعاليم ونسير على خطى الآباء المبجلين الذين تجمعوا في نيقيا، وخطى خلفائهم المبجلين: يوستانيوس من انطاكيا، وباسيل من قيصرية، وكريكور، ويوحنا، وأثاناسيوس، وثيوفيلوس، ودوماسوس من روما، وأمبريوس من ميلانو”. والأكثر غرابة ربما تكون الجملة التالية التي اتهموا فيها اتباع قورلوس بنفس التهمة التي ألصقت بهم بخصوص المحافظة على الانضباط والتلمذة الحقة في الكنيسة:” لقد ناولوا القربان المقدس إلى أناس طردوا من كنائس مختلف المقاطعات والأبرشيات، في حين أتهم بعضهم الآخر بالهرطقة، وبحمل نفس أفكار سيلستوس وبيلاجيوس، لذلك تم تحريمهم من قبل رؤساء أبرشياتهم ومطارنهم، وقاموا بمخالفة كافة النظم الأبرشية المقدسة، وبإثارة اتباعهم ضد كافة الاتجاهات وبإظهار حماسهم في إلزام تعاليمهم بالقوة بدلاً من التقوى”. مع هذا لم يحقق الشرقيون نجاحاً كبيراً. ومن خلقيدونيا كتب ثيودوريط القورشي إلى الكسندر من هيرابوليس قائلاً:” مهما كان الحال، فإنني طالماً موجود هنا، لن أتوقف عن خدمة مصالح زعيمنا [نسطوريس] الروحي هذا، لعلمي بقيام الملحدون بجعله مخطئاً”. ويظهر من الجملة التالية، نية ثيودوريط بالانسحاب من هذا النزاع:” تتمثل رغبتي، في أن تكون نيتك كما هي نيتي، بالتخلص من هذا النزاع، إذ ليس هناك أمل منه، طالما اشترى كل القضاة بالذهب، وبالاعتقاد أن الطبيعة الإلهية والبشرية هي واحدة”. ولما عجز الإمبراطور عن عمل المصالحة بين الطرفين، عاد بصورة مباغتة إلى القسطنطينية، ودعا ممثلي قورلوس اللحاق به، والقيام برسامة خليفة لنسطوريس، ليشغل الكرسي البطريركي الشاغر في القسطنطينية. وفي 25 تشرين الأول 431م تمت رسامة ماكسيمان وهو قس قديم ليصبح بطريرك القسطنطينية، أما المبعوثون الانطاكيون فلم توجه لهم الدعوة، ولا هم تجرأوا اللحاق بالإمبراطور إلى القسطنطينية. وكانت تلك خيبة أمل كبيرة لدى الانطاكيين الذين توقعوا عقد مجمعاً أخيراً ينهي النزاع. ويقول دوشيتز أن السبب الوحيد لهذه النهاية المباغتة هو التأثير الذي خلقه وجود المبعوثون الرومان الذين كانوا من جانب فريق قورلوس، على الإمبراطور الذي قرر حينذاك مساندة فريق قورلوس.
- حل مجمع أفسس:بعد استقالة نسطوريس ورسامة خليفة له، حل مجمع أفسس من قبل الإمبراطور الذي كان بنفسه قد دعا لعقد المجمع السنة الماضية. وجاء في المرسوم الحل:” نتيجة عدم قدرتكم على إقناع الانطاكيين إضافة إلى عدم استعدادكم للدخول في حوار حول نقاط الخلاف، لذلك قررت بأمر الأساقفة الشرقيين بالعودة إلى كنائسهم، وبحل مجمع أفسس، وعلى قورلوس أيضاً العودة إلى الاسكندرية. أما ميمون فعليه البقاء اسقفاً على أفسس. أما فيما يتعلق بالانطاكيين الذين يكن لهم الإمبراطور احتراماً كبيراً، فقد قال:” وفي نفس الوقت، فإننا نعلن ليكون معلوماً للجميع، بأنه طالما نحن باقون على قيد الحياة، فإننا لن ندين الشرقيين، لأنه لم يتم وبحضورنا دحضهم، وسوف لن يتنازع أحد معهم، بالإضافة إلى ذلك لو رغبتم السعي في سبيل إحلال السلام في الكنيسة مع الشرقيين ( أي الانطاكيين)، أو أنه لا زال بإمكانكم التفاهم معهم في أفسس، فدعوني أعرف ذلك في الحال، وبخلافه فكروا بالعودة إلى دياركم”.
كان أعوان قورلوس أول من غادر أفسس، إذ كان الجميع مرهقون، ومشتاقون إلى صدور مثل هذا المرسوم. أما قورلوس فقد سبق له – كحقيقة لا غبار عليها- قد هرب من سجنه قبل حل المجمع بأسابيع، وذلك ربما بسبب شكوكه القوية حول إمكانية عدم إطلاق سراحه، لأن الإمبراطور كان قد أمر في مرسومه السابق جميع أعضاء المجمع بالعودة إلى ديارهم باستثناء قورلوس وميمون اللذان الزما البقاء في السجن. ومخافة من أن يعاد نفس الأمر، هرب قورلوس من السجن قبل وصول المرسوم النهائي بحل المجمع4. وكان الخيار الوحيد المتاح أمام الانطاكيين هو ” نفض غبار أقدامهم” والانسحاب من النزاع. هذا وغادر المبعوثون الانطاكيون خلقيدونيا بعد عودة أعوان قورلوس إلى ديارهم. واتهموا في رسالتهم الوداعية إلى أعوان نسطوريس الذين قدموا من القسطنطينية إلى خلقيدونيا عبر الأمواج المميتة لنهر بروبينتس، إتهموا قورلوس وأعوانه بالمخادعة من خلال تشبيههم ” بمفقسي بيوض الأفاعي”. ورغم تعرض الشرقيين إلى الإهانة أثناء طريق عودتهم5، فإنهم كانوا متهيئين لخوض غمار المعركة الحقيقية ي سبيل عقيدة آبائهم.
إتفاقية المصالحة عام 433م:
(1) القسطنطينية وطرسوس وانطاكيا: لم يؤدي حل مجمع أفسس إلى إنهاء المشكلة، إذ تشبث الانطاكيون بما يدعوه هيفيل –الموقف الملتوي الغريب-. حيث أنهم لم يقبلوا اعتبار مجمع قورلوس بالمجمع المسكوني، ولم يعترفوا بمكسيمان كبطريرك للقسطنطينية. هذا وقد عقد البطريرك الجديد المنتخب مكسيمان مجمعاً دعا فيه عن تنصيبه وعن تأييده لمقررات مجمع قورلوس. وأعرب في رسالة بعثها إلى قورلوس عن تهانيه بمناسبة الانتصار الذي حققه. وفي نفس الوقت عقد يوحنا الانطاكي مجمعاً آخر في طرسوس / قيليقية، وقد أعلن فيه مرة أخرى عن تحريم قورلوس وأعوانه من المبعوثين الذين قاموا برسامة مكسيمان. وبعد ذلك عقد مجمع ثالث في انطاكيا بغية إدانة قورلوس وأعوانه مرة أخرى. ثم ذهب يوحنا الانطاكي مع بعض أعوانه إلى بيرويا، فتمكن من إقناع الأسقف أكاسيوس البالغ من العمر مائة عام وفي نفس الوقت كتب ثيودوريط القورشي وآخرين رسائل لإثبات وجهات نظر قورلوس الهرطوقية والدفاع عن الأساقفة المطرودين من قبل مكسيمان. هكذا شدد أساقفة الشرق معارضتهم لقورلوس رغم انفصال الأسقف ربولا من أديسا عنهم وانضمامه إلى جانب قورلوس.
(2) القسطنطينية وانطاكية والاسكندرية: في 26 تموز 432م، توفي البابا سيلستين الأول، وخلفه سكستوس الثالث الذي حاول فور تربعه على الكرسي الباباوي، إعادة السلم إلى الكنيسة. وكان راغباً في قبول يوحنا الانطاكي في عضوية الكنيسة، إذا ما رفض الأخير كل ما رفضه مجمع أفسس. وفي هذه الأثناء تقريباً، شاور الإمبراطور بطريرك القسطنطينية الجديد والأساقفة الآخرين، فتقرر نتيجة هذه المشاورات، دعوة كل من يوحنا الانطاكي وقورلوس الحضور إلى نيقوميديا بغية المصالحة هناك. وقد سلم قرار الدعوة هذه أيضاً إلى يوحنا بيد محامي الشعب وكاتب عدله ارسطوليس. وبعث الإمبراطور من بيرويا داعياً منهما الصلاة من أجل استتاب السلم في الكنيسة. ويعتقد تيلمونت بأنه – رغم فقدان رسالة الإمبراطور إلى قورلوس- أن الإمبراطور قد طالب قورلوس بنبذ محرماته، وبنفس الأسلوب طالب يوحنا الانطاكي بنبذ مضادات المحرمات التي وضعها نسطوريس. وإذا كان الاعتقاد صحيحاً، فإنه يظهر أن الإمبراطور رغب في معاملة كل من قورلوس ونسطوريس بنفس درجة المعاملة. كتب يوحنا الانطاكي عند استلامه رسالة الإمبراطور، رسالة إلى الكسندر من هيرابوليس يطلب منه التشاور مع ثيودوريط القورشي بغية إقناعه للحضور إلى انطاكيا، بدلاً من قيامه هو بنفسه
( أي يوحنا) بالرحلة، بسبب تخوفه من أعدائه. نتيجة لذلك عقد مجمع انطاكيا، وآخر فيما بعد في مدينة أخرى في سوريا، والتي لم نتمكن من التعرف على اسمها. وكان من بين الحاضرين أساقفة انطاكيين كبار من أمثال ثيودرويط القورشي، والكسندر من هيرابوليس، وأكاسيوس من بيرويا، ومكاريوس من لاوديا، وأندريه الشمشاطي. وجاء في المشروع الأول من المشاريع الستة التي نوقشت في هذا المجمع ما يلي: ” يجب صيانة مقررات نيقيا من دون أي إضافة، مع رفض كافة التوضيحات الأخرى التي وردت في رسائل وأسفار قورلوس، أما التوضيحات الواجب القبول بها، فهي فقط التي أشار إليها القديس أثاناسيوس في رسالته إلى أبكتينتوس من كورنيث [ ضد الأبولينارية] “. وقد عبر قورلوس في معرض رده على أكاسيوس، عن رغبته في توطيد السلم ومسامحة الانطاكيين على كافة الجراح التي سببوها له. وأعطى أيضاً توضيحات أخرى أكثر دقة لمحرماته الأثني عشرة، لتفنيد التهم الباطلة الموجهة إليه من قبل معارضيه، هذا وقد بعث هذه الرسالة إلى انطاكيا من خلال مكسيموس – أحد مساعدي أرسطوليس- على أمل إقناع الانطاكيين وحملهم على إدانة نسطوريس. وأرسل البابا أيضاً إضافة إلى أساقفة آخرين، رسائل إلى أكاسيوس،طالباً فيها منه العمل على تثبيت السلم في الكنيسة.
(3) انقسام الانطاكيين: كان لهذه الرسائل تأثيرها البالغ على الانطاكيين، وخاصة أكاسيوس الذي طلب من أصدقائه مثل الكسندر من هيرابوليس، إدانة نسطوريس لإحلال السلم في الكنيسة. على أية حال رد عليه الكسندر بقوله أن قورلوس كان أبولينارياً، وقال في رسالة أخرى أنه من الأفضل له أن يتخلى عن منصبه الديني، أو حتى أن يفقد صديقه، على أن ينضم إلى قورلوس. ما لم يقوم الأخير بتحريم أخطائه، والاعتراف أن المسيح هو إله وإنسان، وأنه عانى في الطبيعة البشرية.ويعبر يوثيروس من قبادوقية الذي كان ضمن المجموعة المتشددة والتي كانت تضم إضافة إليه كل من الأساقفة الكسندر من هيرابوليس، وهيلاديوس من طرسوس، وآخرون، يعبر في رسالتيه اللتان بعثهما إلى يوحنا الانطاكي وهيلاديوس من طرسوس، عن شعوره بالأسف العميق ضد أية محاولة للمصالحة مع قورلوس، إلا أن هذه المجموعة كانت تشكل أقلية.
أما فيما يتعلق الأمر بثيودوريط القورشي، فإنه كان سعيداً لإعلان قورلوس بتحريم الأبولينارية. وبالمقابل فقد أعلن عن رغبته بتحريم كافة الداعين أن المسيح كان مجرد إنسان، أو الذين يجزأون الرب يسوع المسيح إلى شخصين. إلا أنه لم يرغب بإدانة نسطوريس كما
طلب قورلوس. وذهب أندريه الشمشاطي أبعد من ذلك، حينما أعرب عن رغبته بالموافقة على تنحية نسطوريس فيما لو لم يكن هناك حل بديل، وبشرط أن لا تحتم الضرورة توقيع الجميع على ذلك القرار. ومع ذلك فإن الأغلبية التي ربما كانت بزعامة أكاسيوس من بيرويا، ارتأت المصالحة وقد ازدادت قوة هذه المجموعة بصورة ملحوظة، حينما اتحد بطريرك انطاكيا يوحنا مع أكاسيوس. لهذا أوفد يوحنا أحد الأساقفة الطاعنين في السن وهو بولس من أميسا إلى الاسكندرية ليحصل على توضيحات أكثر من قورلوس. وفي الرسالة التي بعثها معه إلى قورلوس طلب يوحنا منه أن يستقبل رسوله، ويثق به تمام الثقة كما لو كان هو بنفسه. ومن المعتقد أن يوحنا قد بين لقورلوس بوضوح أنه ى يوافقه إطلاقاً على إدانة نسطوريس. وفي هذه الأثناء حاول يوحنا إقناع الكسندر من هيرابوليس باستقامة قورلوس على ضوء التوضيحات الأخيرة. إلا أن الكسندر لم يبد استعداداً للقبول بهذه الفكرة، حيث رد قائلاً أن قورلوس ما زال أبولينارياً بالرغم من توضيحاته الجديدة، وأنه ( أي الكسندر) سوف لن يوافق أبداً هؤلاء الذين يرتأون مصالحة قورلوس الاسكندراني، وأضاف قائلاً:” لن يمد قورلوس يده نحونا، إلا إذا ما أصبحنا هراطقة”.
(4) السينودس الموحد: حينما ذهب بولس من أميسا إلى الاسكندرية حمل معه السينودس الموحد الذي شرعه يوحنا الانطاكي وأعوانه. وقد جاء في السينودس ما يلي:” نؤمن بربنا يسوع المسيح ابن الله الوحيد، إله حقيقي وإنسان حقيقي، والمتكون من روح عاقلة وجسد، وقد ولد قبل جميع العصور من الآب وفقاً للطبيعة الإلهية … واتحدت الطبيعتان معاً …. كما نعترف أيضاً بأن القديسة العذراء هي حامل الله”. وكان قورلوس سعيداً لقبول هذه الصيغة التي اعتبرها صائبة تماماً. إلا أنه كان مهتماً أيضاً بمعرفة قرار الانطاكيين وموقفهم من نسطوريس. وقام بولس من أميسا رداً على ذلك بتحريم نسطوريس وبكتابة وثيقة خطية يعترف بموجبها بمكسيمان بطريركاً على القسطنطينية، ويقر بتنحية نسطوريس. وجراء عمله هذا، سمح لبولس العودة إلى الكنيسة، وإلقاء مواعظ في الاسكندرية. وفي نفس الوقت طالب بولس بإطلاق سراح أربع نساطرة6 كانوا قد أدينوا من قبل قورلوس ومكسيمان. وبالرغم من إصراره على هذا الطلب مؤكداً بذلك بأنها حالة ضرورية لإحلال السلم في الكنيسة فإنه عاد وأسقط طلبه هذا، بعد المعارضة الشديدة التي أبداها قورلوس ضد هذا الطلب. إضافة إلى ذلك فقد صرح قورلوس أنه غير مقتنع بتصريحات بولس من ميسا بمفرده وأصر على وجوب قيام يوحنا الانطاكي وأساقفة الشرق الآخرون، بإدانة نسطوريس لهذا بعث أرسطوليس رسالة إلى الانطاكيين طلب فيها منهم إعلان موقفهم فيما يخص نسطوريس.
(5) مجمع انطاكيا 433م: لقد أعلن الانطاكيون موقفهم الصريح من قورلوس في مجمع انطاكيا، لكن يظهر أن قورلوس لم يكن مقتنعاً بعد من محتويات إعلانهم، لهذا شرع بممارسة الضغط على البلاط الإمبراطوري، في سبيل التأثير على الانطاكيين لإدانة نسطوريس. وقد كتب إلى كل من بلشيريا وبولس، ورئيس البرلمان رومانوس، وإلى سيدتين من البلاط وهما ماسيلا ودروسيريا وبعث إليهم بهدايا ثمينة، كما بعث قورلوس هدايا أخرى إلى كريسوريتوس الذي كان معارضاً لفريق قورلوس7. هذا ولما كان قورلوس غير واثق من مساندة كريسوريتوس رغم الهدايا الثمينة التي قدمها له، فقد بذل جهوداً منسقة مع بلشيريا لأجل تنحية كريسوريتوس من وظيفته، وبصدد هذه الجهود يقول هيفيل”: لقد بذل قورلوس كل جهد ممكن في سبيل تحقيق النصر في قضية استقامة رأيه”. تبعاً لذلك، قدم أرسطوليس إلى انطاكيا مع بولس من أميسا واثنين من قساوسة الاسكندرية، وطرح وثيقة ليوحنا الانطاكي بغية التوقيع عليها وفقاً للاتفاق الذي تم التوصل إليه بين قورلوس وبولس من أميسا. ولم يرفض يوحنا المباديء المثبتة في تلك الوثيقة، لأنها كانت في جوهرها مبايء الانطاكيين، إضافة على ذلك وافق يوحنا أيضاً وتحت تأثير أرسطوليس، على تقديم أعظم تضحية، وهي تخليه عن نسطوريس، واعترافه بمكسيمان بطريركاً للقسطنطينية. وقد أعلن يوحنا قراره هذا في رسالته العمومية إلى اخوته البطاركة الثلاثة. هذا وذهب بولس من أميسا إلى الاسكندرية ثانية ليسلم إلى قورلوس الذي استقبله بحفاوة بالغة، رسالة المصالحة، ولم يعترض قورلوس على التعديلات التي أجراها يوحنا في فحوى موضوع المصالحة. كما أن الرسالة لم تعين طبيعة هلرطقة نسطوريس إن كانت له أي هرطقة. إضافة إلى ذلك فإن رسالة يوحنا الانطاكي إلى الإمبراطور كانت أيضاً غامضة للغاية فيما يتعلق بنقطة إن كان نسطوريس هرطوقياً أم لا. أما قورلوس فقد أعلن تلك الأخبار السارة إلى أتباعه في 23 نيسان 433م. وفي نفس الوقت بعث برسالة جوابية وتعرف رسالة قورلوس هذه “بسينودوس أفسس” وتبدأ بهذه الكلمات:” دع السماء تبتهج، ودع الأرض تهتز بالفرح”8. وابتهج البابا سكتوس أيضاً لهذا النجاح، وكتب إلى قورلوس في 11 أيلول 433م، وإلى يوحنا في 15 أيلول 433م معرباً عن ارتياحه العميق لاستباب السلم في الكنيسة، هذا وبعث يوحنا بأخبار المصالحة إلى كلا الإمبراطورين، ثيودوسيوس الثاني وفالنتاين الثالث.
(6) الخلاصة: رأينا في هذا الفصل الصراع الذي احتدم بين أعضاء مجامع أفسس المتنافسة سنة 431م، لمدة عامين أبتدأ من الإرباك الذي حصل عام 431م. أما نسطوريس الذي قضى هذه الفترة منعزلاً في ديره، فقد بدأ أصدقاءه الانطاكيون بنسيانه وهجره بصورة تدريجية، لأن ذلك كان ملاذهم الوحيد. وكانت خطوتهم هذه نتيجة حتمية للضغط الذي مارسه عليهم الإمبراطور في سبيل وحدة وسلام الإمبراطورية. وبالرغم من تخلي انطاكيا عن نسطوريس في اتفاقية المصالحة عام 433م، فإن علم اللاهوت الانطاكي حقق انتصاره. من هنا أفرز هذا الصراع بعض الجوانب الإيجابية إذ أجبر قورلوس على الخضوع بقبول مبدأ الطبيعتين الذي ساعد فيما بعد على ثبات مذهب (Dyophysite) في خلقيدونيا بعد جيلين من ذلك الوقت. لذلك فإنه يمكن النظر إلى الصراعات المؤسفة في تلك الفترة، على أنها شرور لابد منها ساهمت في حفظ التوازن بين إلوهية المسيح عند قورلوس ذات الطبيعة المجسدة الواحدة، وبين إلوهية المسيح عند الانطاكيين ذات الطبيعتين. وتؤكد رغبة قورلوس بقبول هذه النظرة المسيحانية طالما أن نسطوريس قد أدين. لأن قورلوس كان منقاداً وراء نزعته الشخصية العدائية لنسطوريس منه إلى النزعة المسيحانية. حتى أنه في عام 433م لم تحدث وحدة تامة، بسبب وجود ردود أفعال على الاتفاقية لدى كلا الطرفين. وكان ثيودوريط القورشي من الانطاكيين الذين وقفوا في منتصف الطريق بين يوحنا ومطرانهم الكسندر الذي عقد مجمعاً مع أساقفة قيليقية تحت رئاسة مكسيمان وقورلوس المطرود. وقد انسحب هؤلاء المتشددون أيضاً من جانب فريق بطريرك انطاكيا. وأخيراً تم تنحية 17 أسقفاً الذين رفضوا المصالحة مع يوحنا الانطاكي إضافة إلى مطرانه الكسندر من هيرابوليس تم تنحيتهم في نيسان 433م، بهذا انتصر الائتلاف في الشرق، ولكن تحت ضغط شديد. أما من جانب قورلوس، فلم يكن قبوله مبدأ الطبيعتين للمسيح، مرضياً لدى عدد من أعوانه أمثال إيزودور من بيلسيوم وأكاسيوس من ملتين. إذ شعر هؤلاء أن قورلوس قد تنازل للانطاكيين كثيراً.نتيجة قبوله اتفاقية المصالحة، وكان السؤال المطروح في كل من مصر والقسطنطينية هو ” لماذا تنازل قورلوس لمبدأ الطبيعتين؟ “. هذا وكان مؤيدو نسطوريس في القسطنطينية، يتباهون بأن قورلوس قد انضم إلى جانب نسطوريس. لذلك اضطر قورلوس إلى الكتابة إلى رسوله في العاصمة القس يولجوس، وإلى بعض من مؤيديه، مصرحاً أنه لم يتخلى عن مواقفه السابقة ضد نسطوريس. كما أوضح لصديقه أكاسيوس من ملتين أن ” صيغة اتفاقية المصالح” أكدت على وحدانية المسيح وليس ازدواجيته. وأنها لم تكن مثل تلك التي كانت لنسطوريس. وبصدد اتفاقية المصالحة لعام 433م نفسها فإنها لم تكن مقنعة لرغبات كلا الطرفين. حيث كان لكل فريق تحفظات على الاتفاقية. وبالرغم من اعتبار قورلوس منتصراً في هذا النزاع، فإنه لم يكن سعيداً جداً باللاهوت الذي أفرزته مقررات المصالحة لعام 433م، إذ جاءت نتيجة عدم وجود حل بديل آخر.
- لقد عانى نسطوريس خلال الفترة (431 – 451 م) الكثير من أعوان قورلوس
- يفصل خلقيدونيا عن القسطنطينية مضيق بسفور
- في رسالة موجه إلى الأسقف روفس
- وصل قورلوس إلى الاسكندرية في 30 تشرين الأول 431م أما كيفية تمكنه من الهرب من السجن فهي مجرد مسألة تخمينية، هذا وكان الانطاكيون يتهمون قورلوس دوماً بمحاولة إرشاء نساء البلاط، فإذا كانت نظرتهم هذه صحيحة، فإن الشخص الذي رشاه قورلوس هو شولتكس الذي كان يعتبر أكثر الأشخاص تأثيراً في البلاط. وقد اكتشف الإمبراطور إستناداً إلى رسالة أكاسيوس من بوريا التي تعتبر إثبات خطي عن قيام قورلوس بإرشاء شولتكس ، وكانت صفقات الرشوة قد رتبت من خلال بولس ابن أخ قورلوس
- عوملوا من قبل أسافقة آتيرا والقيصرية معاملة المطرودين من الكنيسة
- وهم كل من هيلارديوس ويوثيروس وهمريوس ودورثيوس
- يعتقد هيفيل أن هذه الهدايا لم تكن كافية لإشباع الرغبات الكبيرة لأصحاب البلاط، ويطلب قورلوس في رسالة له إلى مكسيمان أن يبذل ما في وسعه من تأثير على الإمبراطور بغية إقناعه والانطاكيين لقبول وجهة نظره. كما زود مكسيمان بقائمة الهدايا التي بعثها إلى مختلف الشخصيات، طالباً منه بصورة غير مباشرة القيام بعمل نفس الشيء
- يقول البروفيسور فينكلر ديتمر (فيينا / النمسا) في معرض حديثه عن البيان المسيحاني المشترك الذي وقعه مار دنخا الرابع بطريرك الكنيسة الآشورية مع قداسة البابا يوحنا بولس الثاني بتاريخ 11/11/1994، بأنه نفس البيان الذي وقعه يوحنا الانطاكي مع قورلوس الاسكندري،عام 433م لغرض المصالحة بين الاثنين. للمزيد عن هذا الموضوع طالع: Syriac Dialogue Volume 4 / Vienna 2001 Page 142