الأب أفرام سليمان
للصوم الكبير حظ وافر من غنى صلواتنا المشرقية ومؤلفات آبائنا العظام أعمدة كنيسة المشرق، فهذه الفترة بالذات حافظت أولا على تركيبة ساعات الصلاة الثمانية، كما أنها تمتاز بالحفاظ على مكونات صلاة المساء كما كانت قبل إدخال المواد الإضافية إليها. وتمتاز أيضا بكثرة المداريش والطلبات.
ولما كان محور حديثنا هو المدراش ففي الصوم هناك مدراش يومي خلال الأيام التي يقام فيها القداس، أي الآحاد والجمع وأيام الأسبوع الأول والرابع والسابع. وإذا ما سئلنا عن السبب في وجود المداريش خلال هذه الأيام، فالجواب يكون لأن غاية المدراش هي التعليم.. أو بالأحرى إنه صلاة تعليمية لسهولة حفظه وهو في نفس الوقت صلاة طلب وشكر. وخلال فترة الصوم لا يجب أن ننسى الموعوظين الذين كانوا بحاجة ماسة إلى مثل هذه التعاليم المعمولة بشكل فني رائع يسهل تعلمها وحفظها.
وسنكتفي هنا بتحليل ثلاثة من هذه المداريش فقط:
المدراش الأول: للأحد الأول من الصوم “خودرا: ܒ؛ ܢܟ:
الردة: مبارك المسيح الذي بصومه أعطى الغلبة للبشر المائتين، وأذلّ قوة المتجبر أمام ناظري الجهاد.
ـ صعد الشيطان خجِلا من الحرب الأولى وغيّر مكان الحرب كسلاح للحرب الثانية وذلك لرجاء باطل كان ينتظره من حرب إلى حرب معتقدا أن فرصا كثيرة ما تزال لديه.
ـ في أصل محبة المال الحامل نموذج الطمع، علي أن لا أقترب منه. إذ منه تنبت الشرور. فكان يريد بمحبة المال أن يحاربه، وكان يرغب في إظهار محاسن ممتلكاته فوق الجبل.
ـ أعطاه الخالق رغبته لعلمه أنه يطلبها، فأصعد مخلصنا إلى الجبل ليحارب الشرير. خجل الشيطان من ربنا وتبددت قواته وجلست اليسار كلها بحزن لضعف المتمرد “الشيطان”.
يصور هذا المدراش تفكير الشيطان بحسب إنجيل لوقا 4: 1 ـ 131بعد اندحاره من قبل يسوع في الحرب الأولى.. أي تجربة تحويل الحجارة إلى خبز ومحاولته أن يحارب يسوع من ناحية أخرى ألا وهي الطمع “محبة المال”.
إن الله الذي ترتعد منه حتى الشياطين كان يعرف ما في فكر الشيطان، لذلك منحه مبتغاه كما منحه من قبل ليجرب أيوب ليس لأنه يحاور الشيطان بل ليبين لعبيده قوة حضوره “الله” أثناء التجارب. ولما كان للشيطان خبرة في تجربة الطمع مع أبوينا اللذان ساوما حياتهما اللاهوتية في كنف الله بثمرة نهرهما الله عن أكلها، إعتقد أن يسوع إنسانيا هو ابن أولئك الضعفاء وسيساوم هو أيضا بأن يسجد فقط لا غير مقابل ممالك العالم كلها كون الشيطان هو سيد هذا العالم.
لكن يسوع بارع في الشريعة، والسجود لله وحده هي أولى الوصايا، وسجوده للشيطان يعني نكرانه لله الذي أعلنه قبل هذا في العماد ابنا حبيبا.
المدراش الثاني: للأحد الرابع من الصوم “خودرا : ܒ؛ ܩܨܘ:
الردة: الشكر لمن أعطانا صومه المقدس سلاحا منيعا ضد العدو.
ـ اللهم افتح فمي لأرنّم به خبر الصوم المقدس المليئة جهوده هناءً، فهو يصفّي الأفكار وينظّف الأعضاء ويطرد الخطيئة من جنسنا. وهو ضد الموت ومكايد الشيطان ويسحق إبليس بقوته المنيعة.
ـ أخوتي، البسوا السلاح وخوذة الخلاص، نعمل بقدر المستطاع كلنا بشجاعة، ونزين أجسادنا مع نفوسنا ونرضي الله بالصوم ودموع التوبة والسيَر الصالحة النقية ونتفقد المرضى ونعطي المحتاجين.
ـ لنصمْهُ بالجسد والنفس معا، لا نصومنَّ عن الخبز ونضايق المساكين. ونظهر في أنفسنا مثال الصديقين، لئلا نسمع الصوت الصارخ: إذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية الموعودة في النهاية لجميع الخطأة.
في ختام التجارب يشهد الإنجيليون أن يسوع وبخ الشيطان فارتعد وولى هاربا إلى حين.. أي إلى فرصة ثانية، وجاءت الملائكة تخدمه. كذلك نحن يا أخوتي، فالصوم يهبنا الشجاعة لبعض الوقت لذا هو بحاجة إلى عمل خارجي نحو الآخر بالإضافة إلى الصوم. إن الفضائل هي الزينة التي تجمّل الصوم وتجعله مقبولا من الله. فلا ننسى قول الله على فم إشعيا حول الصوم الحقيقي “الفصل 58”.. وميخا “الفصل 6” وملاخي “الفصل 2” وغيرهم ممن يؤكدون على أن الاقتراب من الله يكون مع أخي وليس على حسابه، وهذا يقودنا إلى الفريسي والعشار. إذن الصوم الجسدي هو خطوة نحو صوم النفس لنكون فعلا عن يمين الديان في مثل الدينونة الذي يعطيه متى “31:25 – 46”. لأن كل ما نعمله لأحد الصغار نعمله ليسوع الذي يجازي كل واحد بحسب أعماله.
المدراش الثالث: للأحد السادس من الصوم “خودرا: ܒ؛ ܪܥܘ:
الردة: بصلاة الصالحين الذين أرضوك، تحنن على الخطأة الصارخين إليك، وأرسل لنا من خزانتِك الحنانَ والرحمةَ والخلاص.
ـ إن كانتْ جبلتُنا مكروهة، فاللوم على الخالق. ولكن إن كانت حريتنا شريرة، فإنها تجمع علينا التوبيخ. لو لم يكن لنا حرية، فلماذا تُسأل إرادتنا. فإن لم تكن.. دانها ظلما، وإن كانت فهو يطالبها بالحق.
ـ السؤال يرافق الحرية والناموس مرتبط بكليهما. تُسأل الحرية إذا ما تجاوزت حدود الديان. ماذا ينفع الخالق الصادق أن يكذب علينا. فلما لم يعطنا الحرية، كتب وأعطانا الشريعة.
ـ ليقمْ الحق في الوسط ليحتج ويسأل إن كان خالقنا أعطانا الحرية أو لا. الأسئلة والمجادلات تنشأ من الحرية، فالطلب والبحث هما من ثمار الحرية.
مدراش رائع على طريقة الفلاسفة والحكماء القدامى ولكنه يختلف بأنه يعطي الحل في النهاية. إنه جدال رائع حول الحرية والشريعة، وهل الله أعطانا فعلا الحرية؟، إذا من أين ينبع الشر؟.. وهل الشريعة تنفي الحرية؟، أليست أسئلة رائعة نبحث عن إجاباتها دوما؟.
إن أول ما يذكرنا هذا إنما بقصة أبوينا الأولين مع الله ومن ثم نتحول إلى موسى والعهد ويسوع والموعظة على الجبل وبولس في رسائله خصوصا “روما 7 : 8″ و”غلاطية 3 : 5”. ففي كل هذه الشواهد الكتابية نرى كيف يبدأ الله مع الإنسان وكيف يفسر الإنسان كلام الله على هواه. إن الله وهب الإنسان حرية منذ أن خلقه لأنه أعطاه مسؤولية الاعتناء بما صنعه، لكن الإنسان خان هذه الأمانة في أول تجربة خضع لها. إذن الله فعلاً وهبنا الحرية وهو لم يكذب علينا مطلقا ليس فقط لأنه أمين دوما ولا يكذب بل لأنه ليس بحاجة ليكذب، فهو إله وطرقه تختلف عن طرقنا. ولما كان الله أعطانا الحرية، وطبيعتنا في جوهرها هي صالحة فاللوم يقع على عاتق الحرية التي يستعملها الإنسان وليس على الله الذي وهبها، لأن الحرية بحد ذاتها جميلة وتسعد الإنسان.
لمَ وضع الله الشريعة؟، الله وضع الشريعة مع الحرية ليس لتحدها سلبيا بل لكي تعرف الحرية أين تنتهي حدودها، ولا تتجاوز على واهبها. فالشريعة نور للحرية، والدليل على حريتنا هو جدالنا ونقاشنا مع الله، فآدم وإبراهيم ويعقوب وموسى وأيوب ويسوع ونحن نجادل ونحاور ونطالب الله بما قد يكون من شأنه هو فقط.
في الختام أود أن ننتبه للتطور الفكري الحاصل خلال المداريش فإنه ينتقل من الأسهل نحو الأصعب كما لو كان منهاجا تعليميا يتطور ويتعقد مع مرور أيام الدراسة. فمن نص إنجيلي إلى فكرة روحية وأخيرا فكرة فلسفية لاهوتية تمس كيان الشخص البشري.
- قلنا لوقا لأن متى يذكر تجربة السجود في الأخير، أما لوقا فيذكرها كتجربة ثانية وهذا ما نفهمه من قصد الكاتب في البيت الأول