القديس يوحنا ذهبي الفم
أريد عملكم لا مديحكم
يبدو أن مقالي الأخير الطويل الذي ألقيته لإشعال غيرتكم تجاه هذه الاجتماعات لم يكن نافعًا، لأنه لا تزال كنيستنا مهجورة من أبنائها. لهذا فإنني أجد نفسي ملزمًا أن أتضايق وأتكدر، فأوبخ الحاضرين وأخطئ الذين تخلفوا عن الحضور. أولئك بسبب عدم قيامهم من كسلهم، وأنتم بسبب عدم تقديمكم يد المعونة في خلاص إخواتكم.
حقًا أن من يتطلع إلى تكدري بطريق خاطئ يدعونني سليطا. لكن هذا لا يمنعني من إثارة روحه لنفس الغرض (أي الاهتمام بخلاص إخوته)، لأنه لا شيء عندي أفضل من هذا النوع من (اللجاجة).
ليحدث ما يحدث، مادمتم في النهاية تخجلون وتعتنون بإخوتكم بسبب لجاجتي الدائمة.
لأنه ماذا تفيدني مديحكم ما لم أراكم تتقدمون في الفضيلة؟! وماذا يضرني في صمت السامعين (عن مدحي) إن كنت أري نحو تقدمكم؟!
فمدح المتكلم لا يكمن في كلمات ثناء السامعين، بل في التهاب غيرتهم نحو الصلاح. ولا يكمن في الصوت الذي يحدثونه أثناء سماعهم له، بل في الغيرة الباقية (العاملة). لأن كلمات الثناء الخارجة من الشفاه سرعان ما تنتشر في الهواء وتتبدد. أما تقدم المستمعين في الفضيلة فيهب مكافأة أبدية غير فانية لكل من المتكلم والمطيعين له.
ثناء هتافكم يهب شهرة للمتكلم هنا. أما ورع نفوسكم فيزكيه بالأكثر أمام عرش النعمة. فمن كان محبًا للمعلم فليشتاق إلى نفع السامعين له، لا إلى مدحه بالكلام.
إن إهمالنا لإخوتنا ليس بالخطأ الهين، إنما يجلب علينا عقوبة عظيمة وتأديبًا بغير رحمة.
تاجروا في الوزنات
لقد وُبخ الرجل الذي دفن الوزنة، إذ لم يجاهد لأجل تغيير إنسان شرير… وبهذا صار هو شريرًا، لأنه لم يضاعف ما قد عهد إليه به، لهذا استوجب العقاب. فلا يكفي لخلاصنا أن نكون غيورين مشتاقين إلى سماع الكتب المقدسة، إنما يلزمنا مضاعفة الوديعة. فمع اهتمامنا بخلاصنا الخاص بنا نتعهد أيضًا بما هو لخير الآخرين.
لقد قال الرجل المذكور في المثل “هوذا الذي لك” (مت25: 25)، لكن هذا الدفاع لم يقبل، إذ قيل له “فكان ينبغي أن تضع فضتي عند الصيارفة”.
أرجوكم أن تلاحظوا كيف أن وصايا السيد سهلة، فالبشر يسألون المقرضين إيفاء الدين (ولا يبالون بشخص المقترض).. لكن الله لا يفعل هذا، إنما يأمرنا أن نأخذ الوديعة ولا يحاسبنا عليها بقصد استردادها… إنما يستجوبنا بخصوصها دون أن يطلبها منا.
أي شيءٍ أسهل من هذا؟! ومع ذلك يلقب سيده الوديع الرحيم قاسيًا. لأن هذه هي عادة الإنسان الجاحد الكسلان يخفي خجله من أخطائه بنسبها إلى سيده. لهذا ألقى خارجًا في قيود الظلمة الخارجية.
فلكي لا نسقط تحت العقاب، يلزمنا أن نودع تعاليمنا لدى إخوتنا، سواء كانوا يقبلونها أو يرفضونها. فإنهم إن قبلوها ينتفعون ونحن نربح معهم. وإن رفضوها يسقطون تحت العقاب غير المحتمل دون أن يصيبنا نحن أي ضرر. إذ نكون قد صنعنا ما يجب علينا من جهة تقديم النصيحة. لكنني أخشى أن يبقوا على حالهم بسبب تراخيكم وإهمالكم.
لا تيأسوا من خلاص أحد
إن مداومة النصيحة والتعليم تجعل الإنسان مجتهدًا وتصيره إلى حال أفضل، وفي هذا أقتبس المثل العام الذي يؤكد هذه الحقيقة، وهو أن “قطرات الماء المتواترة تشقق الصخر”. أي شيء ألين من الماء؟! وأي شيءٍ أصلب من الصخر؟! ومع هذا موالاة العمل باستمرار يغلب الطبيعة. فإن كان هذا بالنسبة للطبيعة، أفليس بالأولى تغلب الطبيعة البشرية؟!…
أنتم نور العالم
كم أنا مغموم، إذ أرى في أيام الأعياد الجموع المحتشدة كالبحر المتسع الأرجاء، والآن لا أجد ولا القليل من الجموع لتجتمع ههنا.
أين ذهب أولئك الذين يزحموننا بوجودهم في أيام الأعياد؟!
إنني أتطلع إليهم متحسرًا عليهم، حزينًا من أجل تلك الجموع التي تهلك بعيدًا عن طريق الخلاص.
يا لها من خسارة عظيمة في الإخوة! إن قليلين هم الذين يهتمون بالأمور الخاصة بالخلاص.
يا له من جزء كبير من جسد الكنيسة يشبه الميت الذي بلا حراك!!
تقولون: وماذا يخصنا نحن في هذا؟
لديكم إمكانية عظمي بخصوص إخوتكم. فإنكم مسئولون إن كنتم لا تنصحوهم، وتصدون عنهم الشر، وتجذبونهم إلى هنا بقوة، وتسحبونهم من تراخيهم الشديد. لأنه ماذا يليق بالإنسان أن يكون نافعًا لنفسه وحده، بل ولكثيرين أيضًا. ولقد أوضح السيد المسيح ذلك عندما دعانا “ملحًا” (مت 5: 13)، و”خميرة” (مت 13: 33)، و “نورًا” (مت 5: 14)، لأن هذه الأشياء مفيدة للغير ونافعة لهم.
فالمصباح لا يضيء لذاته، بل للجالسين في الظلمة. وأنت مصباح، لا لتتمتع بالنور وحدك، إنما لترد إنسانًا ضل، لأنه أي نفع لمسيحي لا يفيد غيره؟! ولا يرد أحدًا إلي الفضيلة؟!
مرة أخرى، الملح لا يُصلح نفسه، بل يصلح اللحم لئلا يفسد ويهلك… هكذا جعل الله ملحًا روحيًا، لتربط الأعضاء الفاسدة أي الإخوة المتكاسلين المتراخين، وتشددهم وتنقذهم من الكسل كما من الفساد، وتربطهم مع بقية جسد الكنيسة.
وهذا هو السبب الذي لأجله دعانا الرب “خميرًا”، لأن الخميرة أيضًا لا تخمر ذاتها، لكن بالرغم من صغرها فإنها تخمر العجين كله مهما بلغ حجمه. هكذا افعلوا أنتم أيضًا. فإنكم وإن كنتم قليلين من جهة العدد، لكن كونوا كثيرين وأقوياء في الإيمان والغيرة نحو الله. وكما أن الخميرة ليست ضعيفة بالنسبة لصغرها، إذ لها قوة وإمكانية من جهة طبيعتها… هكذا يمكنكم إن أردتم أن تجتذبوا أعدادًا أكثر منكم ويكون لهم نفس المستوى من جهة الغيرة.
لكن قد يعتذرون بأن الوقت صيف، إذ أسمع أمثال هذه الكلمات بأن الحر زائد، وحرارة الشمس غير محتملة، ولا نقدر على الزحام (هذه أمثله من الحجج التي نسمعها من بعض المسيحيين).
صدقوني أني أخجل منهم. فإن مثل هذه الاعتبارات مملوءة تدليلاً، التي لا يليق أن يحتج بها حتى أصحاب الأجساد الرقيقة وذوي الطبيعة الضعيفة، فأنها لا تبررهم.
فإنهم إن قدموا مثل هذه الأعذار بغير خزي، فيلزمنا ألا نخجل من إجابتهم.
وماذا أقول للمتقدمين بمثل هذه الأعذار؟ إنني أريد أن أذكرهم بالثلاث فتية في أتون النار، الذين إذ أحاطتهم النيران من كل جانب، تغمر أفواههم وعيونهم وتنفسهم لم يكفوا عن التغني بالتسبحة السرية المقدسة لله.
وأظن أنه يليق بنا أن نضيف إليهم الأسود التي كانت في بابل ودانيال في الجب (دا 4: 24).
وليس هذا وحده، بل وفي الجب آخر كان النبي أرميا حيث كان الوحل قرابة رقبته (أر 38: 5)
أليس من المدهش حقًا أن هؤلاء القديسين الذين كانوا في أتون النار أو في جب أو بين الوحوش، وفي الوحل، وفي السجن، وتحت الضربات والجلدات والآلام غير المحتملة، لا يتذمرون بل يتغنون بالتسبيح المقدسة في حيوية وبغيرة متقدة بينما نحن الذين لم نقع تحتها – لا في كثير ولا في قليل – نهمل خلاصنا محتجين بسخونة الشمس وحرارة الجو قليلاً وبعض التعب، هاجرين اجتماعنا، مفسدين أنفسنا بذهابنا إلى اجتماعات مهلكة تمامًا؟!
فمن الواضح أذن أن هذه الأعذار غير المعقولة هي وليدة الكسل والتراخي، مفتقرة لنيران الروح القدس.
لتدعوا الجميع
إن ملاحظاتي هذه ليست موجهة إليهم بل بالأكثر إليكم يا من تتقدمون بهم، وتقيمونهم من كسلهم، وتأتون بهم إلى مائدة الخلاص هذه.
حقًا إن العبيد عندما يقومون ببعض الخدم العامة يستدعون زملاءهم العبيد، أما أنتم فعندما تذهبون لتجتمعوا في الخدمة الروحية تحرمون زملاءكم من بركاتها بسبب إهمالكم.
تقولون “وماذا نعمل إن كانوا لا يرغبون في المجيء؟”
اجعلوهم يرغبون بلجاجتكم الدائمة، فمتى رأوكم مصرون على هذا يرغبون هم أيضًا.
إنها مجرد أعذار تقدمونها. فكم من آباء يجلسون ههنا ولا يرافقهم أولادهم؟ هل من الصعب أيضًا أن تأتوا ببعض من أولادكم؟!
ليشجع كل واحد غيره، ويحثه على الحضور. فالأب يشجع ابنه، والابن أباه، والأزواج زوجاتهم، والزوجات أزواجهن، والسيد عبده، والصديق صديقه، وبالحري ليس فقط أصدقاءه بل وأعداءه أيضًا… داعيًا إياهم لينهوا من الكنز المقدم لخير الجميع. فإن رأى العدو اهتمامك بما هو لخيره فسينزع عنه بغضته لك.
لا تأتي فارغًا
إنني أقول أن الذين تخلوا عن هذا الاهتمام بالإخوة ينالون صفعة في أكثر أجزائهم حيوية، محتملين خسارة أبشع مما تحدث بأي سبب آخر، لأن من يحضرون معهم أحدًا يقتنون ربحًا أعظم مما يقتنى بأي شيء آخر، كما يعلن الكتاب المقدس… “لا يظهر أمامي فارغين” (خر 23: 5)، بمعنى ألا يدخلوا الهيكل بغير ذبائح. فإن كان لا يجوز دخولنا الهيكل بغير ذبائح، فكم بالحري يليق بنا ألا نأتي ونحن غير مصطحبين إخوتنا، لأن هذه التقدمة أفضل من تلك.
ليتنا نقتدي ببعض المخلوقات غير العاقلة، إذ تصطاد فريسة لممن هو من جنسها، فأي عذر لنا نحن الذي قد كرمنا بالعقل وبحكمة كهذه إن كنا لا نعمل مثلها؟
لقد نصحتكم في العظة السابقة وقلت لكم: “أذهبوا كل واحد إلى بيوت أقربائه، وانتظروهم حتى يخرجوا وامسكوهم واقتادوهم إلى بيت أمهم العام. امتثلوا بالمجانين الذين يقابل كلٍ منهم الآخر مبكرًا لكي يقتاده للمشاهد الشريرة.
وها أنا أكرر النداء، ولا أكف عنه حتى أجد بكم إلى العمل.
اجذبوهم بالعمل لا بالكلام
السماع لا يفيد شيئًا ما لم يصحبه التنفيذ، بل يجعل دينونتنا أشد.
أسمع ما يقوله السيد المسيح “لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية. وأما الأنبياء فليس لهم عذر في خطيتهم” (يو 15: 22) ويقول الرسول “لأن ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله” (رو 12: 13).
هذا قيل من أجل السامعين، ولكن أراد الرب أن يعلم المعلمين أنهم لا ينتفعون من تعليمهم شيئًا ما لم تنطبق تعاليمهم مع سلوكهم، وكلماتهم مع حياتهم… إذ يقول النبي “وللشرير قال الله مالك تحدث بفرائضي وتحمل عهدي على فمك وأنت قد أبغضت (التعليم)” (مز 49: 16-17) ويقول الرسول “وتثق إنك قائد للعميان ونور للذين في الظلمة ومهذب للأغبياء ومعلم للأطفال ولك صورة العلم والحق في الناموس. فأنت إذًا الذي تعلم غيرك ألست تعلم نفسك؟!” (رو 2: 19-21)
لهذا ليت شغفنا لا يكون متزايدًا إلى مجرد الاستماع، فإنه بالحق حسن جدًا أن نقضي وقتنا دائمًا في الاستماع للتعالم الإلهية، لكنها لا تفيدنا شيئًا إن لم ترتبط بالرغبة في الانتفاع منها.
من أجل هذا لا تجتمعوا هنا باطلاً. بل لا أكف عن أن أتوسل إليكم بكل غيرة كما كنت أفعل من قبل قائلاً: “تعالوا بإخوتكم إلى هنا. أرشدوا إلى هنا. أرشدوا الضالين. علموهم بالعمل لا بالكلام فقط”.
هذا هو التعليم ذو السلطان، الذي يأتي خلال سلوكنا وأعمالنا. فإنك و إن كنت لا تنطق بكلمة، لكنك بعد ما تخرج من هنا تعلن للبشر الذين تخلفوا عن الربح الذي اقتنيته ههنا وذلك بواسطة طلعتك ونظراتك وصوتك وكل تصرفاتك. وهذا كافٍ لإرشاد والنصح.
يلزمنا أن نخرج من هذا الموضع كما يليق بمكان مقدس، كأناس نازلين من السماء عينيها، وقورين وحكماء، ناطقين وصانعين كل شيءٍ بلياقة.
فعندما ترى الزوجة رجلها آتيًا من الاجتماع، والأب ابنه، والصديق صديقه، والعدو عدوه ، يرون فيهم أثار البركات التي تمتعوا بها. فيدركون إنكم قد صرتم ودعاء وأكثر حكمة وإتزانًا.
تأملوا أي امتيازات تتمتعون بها خلال الأسرار المقدسة؟! علموا الذين “هم من خارج” أنكم في صحبة طغمة السارافيم، محسوبين مع السمائيين، معدين في صفوف الملائكة، حيث تتحدثون مع الرب وتكونون في صحبة السيد المسيح.
فإن تهيأت نفوسكم هكذا، فلا حاجة إلى ما ننطق به مع من تخلفوا عن الحضور، لأنهم يرون ما نلناه، ويلمسون خسارتهم، فيسرعون للحضور ليتمتعوا مثلنا.
إنهم يحثون بجمال نفوسكم المتلألئة، تلتهب قلوبهم بمظهرنا الصالح مهما كانوا أغبياء، لأنه إن كان جمال الجسد يغري ناظره، فكم بالحري يهز جمال النفس وتناسقها ناظرها، وتجذبه لتكون له نفس الغيرة؟!
إذًا فلنزين إنساننا الداخلي، ولنفكر فيما يقال ههنا عندما نخرج… لأنه إن كان المصارع يصارع حسبما تدرب عليه في مدارس المصارعة، إلا أننا نحن في تعاملنا مع العالم لم نستخدم ما نسمعه ههنا!!
اجذبوهم بالحب
تذكروا ما يقال لكم، حتى عندما تخرجون ويلقى الشيطان يديه عليكم عن طريق الغضب أو المجد الباطل أو أي شهوة أخرى، فإنه بتذكركم ما تعلمتموه هنا تقدرون أن تفلتوا من قبضته الشريرة بسهولة.
ألا ترون كيف أن المتمرنين حسنًا، بعد ممارستهم المصارعة زمنًا طويلاً وقد أعفوا منها بسبب كبر سنهم، يجلسون خارج الحلبة وينادون من يعلمونهم قائلين هكذا “أمسك يده، أسحب رجله، أضغط على ظهره، وما إلى غير ذلك من التوجيهات”…
أليسوا بهذا يقدمون خدمة عظيمة لتلاميذهم؟! وأنتم أيضًا تطلعوا إلى مدربكم – بولس الطوباوي -الذي بعدما نال نصرات كثيرة، يجلس خارج الحدود – أي هذه الحياة الزمنية – ويصرخ إلينا برسائله. فإذ يرانا في غضبٍ أو مستائين مما يلحقنا من الأضرار يقول: “فإن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فأسقيه” (رو 12: 20)
وصية جميلة خاصة بالحكمة الروحية، نافعة لمنفذها وللمستفيدين بها! لكن بقية النص يثير حيرة عظيمة ويبدو كأنه غير متفق مع نية ناطق الكلمات السابقة… إذ يقول: “لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه”.
بهذه الكلمات الأخيرة يصيب الفاعل والمستفيد شرًا. الأخير لأنه توضع على رأسه جمر نار .. فما المنفعة له من الطعام والشراب إن كان يجمع على رأسه جمر نار؟!.. أما مقدم المنفعة فهو أيضًا يصيبه ضررًا بطريق آخر، لأنه أي فائدة يجتنيها من صنعه الخير لعدوه إن فعل هذا بقصد جمع جمر نار على رأسه؟! إذ لا يكون بهذا رحومًا ومترفقًا بل قاسيًا ومتوحشًا.
فما هو الحل؟
لقد كان هذا الرجل العظيم والحكيم (بولس) عالمًا تمامًا بهذه الحقيقة، وهي إن مصالحة العدو بسرعة أمر خطير وصعب، لا بحسب الطبيعة إنما بسبب تراخي الإنسان. وهو لا يأمرنا فقط أن نصطلح على عدونا بل وأن نطعمه أيضًا، الأمر الأكثر صعوبة لأنه إن كان البعض لا يقدر حتى على معاينة من يضايقونهم، فكيف يرغبون في تقديم الطعام لهم وهم جائعون؟!
ولماذا أقول أن النظر إليهم يثيرهم، بل مجرد ذكر اسمهم يعيد إلى ذاكرتهم جراحتها ويلهب نيران حنقهم.
لقد كان بولس عالمًا بهذا، وهو يريد إن ما كان قاسيا وصعبًا سهلاً وبسيطًا. يريد أن يقنع من لا يحتمل معاينة عدوه أن يقدم له خيرًا، لذلك أضاف قوله “يجمع جمر نار”، حتى يسرع محب الانتقام إلى صنع الخير لعدوه.
كما أن الصياد يحيط الصنارة بطُعم من كل جانب، فتسرع سمكة لتأكل منه كعادتها (في أكل السمك الصغير) للحال يأسرها الصياد ويمسكها بسهولة، هكذا يصنع بولس الذي يريد أن يقود الإنسان إلى تقديم لخير لمضايقيه، إذ لا يقدم صنارة الحكمة الروحية عارية، إنما يغطيها بمثل هذا الطعم أي “جمر النار” فيدعوا الإنسان المهان الراغب في الانتقام إلى تقديم الخير لمضايقه.
وإذ يأتي الإنسان بهذا الفعل يصطاده الرسول ولا يتركه يهرب.
فكأن الرسول يقول لمحب الانتقام “إن كنت لا تقدم الطعام للمخطئ إليك من باب الشفقة، فقدمه من أجل رغبتك في الانتقام”. والرسول يعلم إنه متى بدأ الشخص في هذا العمل فسيكون هذا بداية إنطلاق للمصالحة بينهما (ويختبر الشخص حلاوة فضيلة محبة الأعداء).
إنه بهذا يعين الإنسان الذي غضب، لكن لاحظ كيف يربط بين الإثنين.
أولاً: عن طريق صنع الخير (لأنه مهما كان الإنسان دنيئًا وبلا إحساس، فإنه بعدما يتقبل الطعام والشراب يصبح خادمًا وصديقًا لمن قدمهما إليه).
ثانيًا: عن طريق الخوف من الانتقام. لأن العبارة: “لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه” تبدو كأنها موجهه لمقدم الطعام، لكنها هي بالأكثر تخص مسبب المضايقة. فبخوفه من العقاب فيكف عن العداوة، لأنه يعلم إن أخذه الطعام والشراب يزيد جرمه إن بقي في العداوة. لهذا يصرف غضبه للحال مطفئًا جمر النار.
فالعقوبة المقترحة والانتقام المعلن يقنعان الطرفين: الذي أهين لكي يقدم الخير لمضايقه، ومسبب الغضب نصده ونجبره أن يصطلح مع من قدم له الطعام والشراب.
وهكذا يربط بولس الاثنين برباط مزدوج. الأول يعتمد على تقديم المنفعة لمضايقه، والثاني الخوف من العقاب. لأن الصعوبة تكمن في أن يبدأ أحدهما ويفتح باب المصالحة، وعندئذ يكون الباقي سهلاً وبسيطًا.
اهزم شرك لا أخاك
لهذا لم يقف بولس عند هذا الحد في نصحه، بل عندما يفرغ كلاهما من الغضب يقدم الوضع السليم قائلاً: “لا يغلبنك الشر”. وكأنه يقول “إن كنت تحمل غيظًا وتبحث عن الانتقام، فإنه حقًا يبدو كأنك تهزم عدوك. لكن في الحقيقة تكون أنت المغلوب بالشر أي بالغضب”.
فإن أردت الغلبة اصطلح ولا تهاجم خصمك. فإنها نصرة عظيمة أن تغلب الشر وتطرد الغضب والحنق، بصنع الخير أي الاحتمال.
إذًا هل أدركت حكمت المشرع؟! ولكي تتعلم أنه جاء بهذه الوصية هكذا بسبب ضعف الذين لا يقتنعون أن يصطلحوا… أسمع ما يقول السيد المسيح عندما شرع وصية في نفس الأمر دون أن يضع نفس الجزاء بل قال: “أحبوا أعدائكم… احسنوا إلى مبغضيكم” (مت 5: 22) أي قدموا لهم طعامًا وشرابًا… “لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات” (مت 5: 45) موضحًا لهم هذا الجزاء لأنه كان يحدث بطرس ويعقوب ويوحنا وبقية الرسل…
مثال عملي
لقد اقتبس الرسول نفس كلمات سليمان (أم 25: 21-22) ليقنع المستمع الذي بلغ درجة روحية عالية هكذا يراعى ما جاء في الناموس القديم كأمر نفذه أناس من رجال العهد القديم.
كثيرون نفذوا هذه الوصية من بينهم داود الذي نفذها في صورة سامية، إذ بالحقيقة لم يقدم لعدوه طعامًا وشرابًا فحسب، بل وأنقذه دفعات كثيرة من الموت. فعندما كان في جبعة وكان في إمكانه أن يقتل لم يفعل هذا مرة ومرتين… نعم بل ومرات كثيرة.
وبقدر ما كان شاول يكرهه ويضايقه، كان هو يقدم له خيرًا وصلاحًا كثيرًا. فبعدما أنتصر داود إنتصارًا باهرًا أمام داود…لم يطق شاول أن يذكر اسمه بل كان يدعوه باسم أبيه. فبعدما أعدت الوليمة ودبر قتله ونفذت الخطة قال شاول “لماذا لم يأتِ أبن يسى” (1صم 20: 27)، إذ لم يطق أن ينطق أسمه الحقيقي… كما أراد أن يحطم مركز هذا الرجل المرموق بذكر أصله.
يا له من فكر بائس ومحتقر، لأنه إن كان في الأب عيوب، فهذا لا يسئ إلى داود، لأن كل إنسان يسأل عن أعماله هو، وبها يمدح أو يذم.
لقد دعاه “ابن يسى” (للتحقير)، أما داود فعندما وجد شاول نائمًا في الكهف لم يدعه “ابن قيس” بل كرمه قائلا:ً “حاشا لي من قبل الرب أن أمد يدي إلى مسيح الرب” (1 صم 26: 11). هكذا كان داود في نقاوة متحررًا من الغضب أو الاستياء من الأضرار، تدعى هذا الذي أرتكب ضده شرورًا كثيرة، وكان متعطشًا لسفك دمه، ومحاولاً أن يهلكه “مسيح الرب”.
أنه لم يهتم ما يستحقه شاول بل فكر فيما يليق به هو أن يفعله حسبما تمليه عليه الحكمة.
أنه لم يتطلع إلى الظروف أنها تسهل عليه عملية قتل شاول بل كانت ملاحظته دقيقة من جهة الحكمة التي تكون له.
هل استطاعت نصيحة القائد له وحثه على ارتكاب الجريمة، وهل استطاع تذكره للماضي أن يعزيه على القتل؟!
لم يستطع شيء من هذا أن يثيره. لكن الفرصة المهيأة له للقتل بسهولة حولته عن إرتكاب الفعل، إذ فكر هكذا أن الله وضع شاول تحت يده ليختبر حكمته.
ربما تعجب من داود لأنه لم يفكر في أي شيء سابق، لكن الذي يدهشني أنا أنه لم يقسي يده على شاول خوفًا من الظروف المقبلة. لأنه يعلم تمامًا أنه إن فلت شاول من يديه فسيكون فيما بعد خصمًا له…لكنه أستحسن أن يعرض نفسه للخطر مسامحًا من أساء إليه على أن يضمن لنفسه أمانًا مستخدمًا العنف مع عدوه.
يا لعظمة هذا الرجل! ويا لسمو روحه! هذا الذي كان الناموس يطالبه “عين بعين وسن بسن” (تث 19: 22) فإنه لم يبلغ إلى هذه الدرجة فحسب بل نال درجة عالية من الحكمة.
ولم تقف حكمته في عدم قتل شاول الخصم العنيف، بل ولم ينطق بكلمة غير لائقة ضده، مع أنه لو تكلم ما كان شاول يسمعه. أما نحن فكثيرًا ما نتكلم بالشر حتى ضد أصدقائنا عندما يكونون غائبين.
يا لحنان روحه! إنه بحق قد تبرر كما جاء في القول: “أذكر يا رب داود وكل دعته (وداعته)” (مز 132: 1)
لنقتد به فلا ننطق بكلمة ضد عدونا ولا نصنع به شرًا بل نقدم له الخير قدر المستطاع، فإننا بهذا نصنع خيرًا مع أنفسنا أكثر مما نصنعه معهم. فقد أمرنا أن نغفر لأعدائنا فتغفر خطايانا (مت 6: 14)
ليتنا نشتاق بشغف أن نتصالح مع من يضايقوننا، سواء أكانوا يفعلون هذا بعدل أو بظلم. فإننا إن اصطلحنا هنا نخلص من الدينونة في العالم الآتي… ولكن إذا جاء الموت في الفترة التي فيها البغضة قائمة، وحمل معه العداوة فسينظر في القضية في الدهر الآتي.
كما أن كثيرين عندما يكونون في نزاع مع غيرهم، يتلاقون مع بعضهم البعض بروح الصداقة خارج المحكمة فيخلصون أنفسهم من الخسارة والخطر والمتاعب التي تلحق الطرفين، أما إذا تُرك الأمر أمام القاضي فسيلحق كلاهما خسارة مادية، كما قد يلحقهما عقوبة، وتبقى العداوة بينهما دائمة.
هكذا نحن أيضًا إذا بقينا في العداوة فسنرحل إلى المحكمة المهيبة في العالم الآتي وندفع حتمًا العقوبة حسب أمر الديان. ويخضع للعقوبة المحتملة كل من الذي غضب ظلمًا لأنه فعل هذا، والذي غضب بعد لأنه أبقى الحنق.
لهذا يلزمنا إذا عوملنا معاملة رديئة ظلمًا أن نغفر لمن يخطئ في حقنا.
لاحظوا كيف يحث المتألمين ظلمًا ويشجعهم للمصالحة مع من أساءوا إليهم “فإن قدمت قربانك على المذبح وهناك تذكرت إن لأخيك شيئًا عليك فأترك قربانك قدام المذبح وأذهب أولاً إصطلح مع أخيك وحينئذ تعال وقدم قربانك” (مت 5: 23-24)
إنه لم يقل: “اجتمع معه وقدم قربانك” بل اصطلح وقدم قربانك.
انظر أيضًا كيف يدفعكم مرة أخرى للذهاب إلى مضايقتكم، بقوله “فإنه إن غفرتم للناس زلاته يغفر لكم أيضًا أبوكم السماوي” (مت 5: 14)، مقدمًا مكافأة عظيمة ليست بهينة.
تأملوا هذه الأمور جميعها، واحسبوا قدر المكافأة العظيمة، وتذكروا أن غسل الخطايا يتوقف على غفراننا للمسيئين إلينا…
ليت إله السلام والمحبة، الذي ينزع عن أرواحنا كل حنق ومرارة وغضب، يتنازل ويهبنا – بارتباطنا مع بعضنا البعض في وحدة تامة كما ترتبط الأعضاء مع بعضها البعض (أف 4: 16) – أن نقدم له باتفاقٍ واحدٍ وفم واحدٍ وروح واحدٍ تسبيح شكرنا الواجبة له. لأن له المجد والقوة إلى أبد الأبد. آمين