القديس مار افرام السرياني
هنا يستجيب لنا ويغفر ويمحو آثامنا. هنا التعزية وهناك الدينونة، هنا التأني وهناك الشدة، هنا الراحة وهناك الضيق، هنا امتلاك السلطة على الذات وهناك مجلس القضاء، هنا التمتع وهناك العذاب، هنا الضحك والتهاون وهناك النار الأبدية، هنا التزين وهناك الشقاء، هنا التصلف وهناك التذلل وصرير الأسنان، هنا الخدر المذهب وهناك الظلمة المدلهمة.
وإذ عرفنا هذا أيها الأحباء فلمَ نتوانى في خلاصنا، ولم تحل لنا محبة الأشياء الأرضية ولم نتهاون في دموعنا والوقت ملك لنا ولكنه قليل.
إنه بالتوبة يغفر الله لنا سائر خطايانا. ابك ههنا قليلا لئلا تبكي هناك إلى أبد الدهور في الظلمة الخارجية، صر ههنا لئلا تلقى هناك في النار التي لا تطفأ، ابك ههنا وتضرع عن خطاياك فتصير لك التوبة خالصة.
لقد خاطبتكم بهذا ولست في حياتي أسلك بالطهارة لكنني بألم وحزن ناظرًا بذهني ما هو عتيد لنا وأنا في النوم والتواني. إنني يا إخوتي نجس وموافق بأفكاري وأعمالي، غير عارف في ذاتي شيئًا صالحًا البتة لكنني الآن في استرخاء وخاطيء بنيتي وقواي، هذه الأقوال أقولها من أجل محبتي لكم لأن الحزن يحوط قلبي دائمًا من أجل دينونة الله الرهيبة لأننا متهاونون دائمًا ونحسب أننا سنعيش في هذا العالم الباطل إلى الأبد، لكن هذا الدهر يعبر وكل ما فيه. ونحن يا أحبائي سنطالب بالجواب عن هذه الأمور لأننا نعرف ما هو نفيس لأنفسنا ونفضل ما هو رديء، بل ونستهين بمحبة المسيح الإله وملكه ونكرم ما هو أرضي. إن الذهب والفضة لا تنقذنا من النار المرهبة، والثياب والتنعم يكون لدينونتنا، الأخ لن يفدي أخاه، والأب لن يفدي ابنه لكن كل أحد يقف في موضعه في الحياة أم في النار.
كثير من الصديقين زهدوا هذا العالم باختيارهم إذ تاقوا إلى المسيح وأكرموه كثيرًا فلذلك هم في كل حين مبتهجون ومضيئون بالمسيح، والثالوث القدوس يبتهج بهم ورؤساء الملائكة والناس في كل وقت يطوبونهم فوهب لهم الإله القدوس ملكه وسيعطيهم مجدًا أعظم. إذ يبصرونه مع الملائكة والقديسين كل حين بسرور.
لقد خلقك الله بفهم وتمييز فلماذا تماثل البهائم الفاقدة النطق؟!.
عُد إلى نفسك أيها الإنسان، وأنظر أنه من أجلك نزل الإله من السماء ليرفعك من الأرضيات إلى السمائيات، قد دعيت إلى الختن السمائي فلمَ تتهاون؟ قل لي كيف يمكنك أن تذهب إلى العرس وليس لك حلة العرس؟ وغير ممسك مصباحًا وإن دخلت بتهاون سيقول الملك لغلمانه أوثقوه من يديه ورجليه واطرحوه في أتون النار حيث العذاب الأبدي. إذ سبق أن جئت ودعوت الجميع إلى عرسي وقد احتقر هذا دعوتي، واستهان بمملكتي ولم يعد لباس العرس.
ألا ترهب أيها الإنسان هذا؟ وأما علمت أن كافة البرايا ستمثل أمامه حين مجيء ذلك الملك السماوي .. قوموا وأبصروا الرب الذي يشبع النفوس والذي أحببتموه وتألمتم من أجله.
تعالوا وافرحوا معه حيث لا يترع أحد فرحكم، هلموا فتمتعوا بالخيرات التي لم تبصرها عين ولم تسمع بها أذن ولم تخطر على بال إنسان ما أعده الله “للذين يحبونه”.
فمن يعطي لرأسي مياهًا كثيرة ولعيني عينًا نابعة دائمًا دموعًا مادام لي وقت تنفع فيه العبرات فأبكي على نفسي النهار والليل.
اتخذ في كل وقت في عقلك خشية الله متذكرًا اليوم الأخير المخوف حين تضطرم السموات وتنحل وتحترق الأرض وكافة ما بها.
تتساقط النجوم والشمس والقمر لا يعطي ضوءه… حينئذ يبصرون ابن الإنسان آتيًا في سحابة بقوة ومجد كثير… تصير الزلازل والبروق… التي لم تصر قبلا مثلها… حتى أن قوى السموات يشملهم الرعب والرعدة… فكيف سبيلنا أن نكون إذًا يا إخوتي وأي رعب يكون لنا؟
تأمل بني إسرائيل في البرية إنهم لم يستطيعوا أن يحتملوا الضباب الشديد وصوت المتكلم في وسط النار .. مع أنه لم يخاطبهم بسخط. فاسمع يا أخي إن كانوا لم يحتملوا هذا حين لم تلتهب السموات ولم تنحل الأرض وتحترق عناصرها ولم تضرب الأبوق فتنبه الراقدين ولم يصر شيء من الخوف العتيد أن يكون… فماذا نصنع عندما يجيء برعدة ويجلس بمجد على عرشه ويستدعي جميع الأرض من مشارق الشمس إلى مغاربها ليجازي كل واحد عن أعماله؟
ويلي ثم ويلي كيف سبيلنا أن ندخل عراة ونمثل أمام هذا الموقف الرهيب؟
أين حينئذ ذلك الجمال الزائف وغير النافع؟ أين تلذذ الناس بالخطايا، أين الدالة الفاقدة الحياء؟ أين التزين بالثياب؟ أين لذة الخطية النجسة؟ أين الذين كانوا يشربون الخمر على الأغاني ولم يعاينوا أعمال الرب؟
أين العائشون بالتواني والنفاق؟ أين التنعم والتلذذ؟ كل تلك عبرت وانحلت. أين حينئذ محبة الفضة وأين حب الاقتناء؟ أين حينئذ الكبرياء والغطرسة الرافضة للجميع والتي تحسب ذاتها وحدها أنها شيء؟
أين وقتئذ المجد الباطل، أين التمرد؟ أين الملك؟ أين الرئيس؟ أين المدبر؟ أين السلطان؟ أين المتنعمون والمتهاونون؟ إنه هناك يشملهم الفزع المرعب.
أين حينئذ حكمة الحكماء الباطلة؟ ويلي ثم ويلي أين الحكيم أين الكاتب أين مباحث هذا الدهر؟
يا أخي ردد الفكر كيف سبيلنا أن نكون حينئذ عندما نطالب أن نؤدي جوابًا عن أعمالنا واحدة فواحدة كبيرة أم صغيرة… أمام القضاء العادل! كيف يكون حينئذ الفرح الذي لا يوصف للذين يقول لهم الملك “تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم” حينئذ تأخذ ملكًا وتاجًا حسنًا بهيًا من الرب وتملك مع المسيح بل وترث الخيرات التي أعدها للذين يحبونه وتكون هناك بلا هم ولا حزن.
تفكر يا أخي فيما هو ملك السموات مع المسيح فيكون لك نورًا أبديًا حيث لا تكون شمس ولا قمر. فأنظر أي مجد قد ُأعطى للذين يتقونه ويحفظون وصاياه؟ ثم تفكر في هلاك الخطاة إذا مثلوا أمام القاضي العادل حيث لا يكون لهم عذر. أي خجل يشملهم عندما يفرزوا عن يساره وبغضب يقول لهم “انصرفوا إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته”.
ويلي ويلي أي نوح يكون لهم ليعذبوا إلى الدهر الذي لا نهاية له. ويلي كيف يكون بكاؤهم وصرير أسنانهم؟ ويلي كيف هي نار جهنم؟ كيف الدود الذي لا ينام والنفاث بالسم؟ ويلي
ويلي أية شدة هي تلك الظلمة الخارجية؟ إنهم يصرخون وليس من يخلصهم ولا من يستجيب لهم. حينئذ يصرخون باطلة هي كل أمور العالم.
أين حينئذ اللذة الكاذبة للخطية إذ لا توجد لذة إلا في مخافة الرب ومحبته المحبة الحقيقية التي تملأ النفوس وتشبعها كأنها من شحم ودسم. إنهم يقولون معترفين في ذاك الوقت إننا سمعنا بهذا ولم نرجع عن أعمالنا الرديئة ولا ينتفعوا شيئًا بقولهم هذا.
ويلي ويلي أنا المقبوض بخطايا أكثر من رمال البحار وقد انحنيت تحتها بأغلال من حديد كثيرة وليست لي دالة أن أبصر وأتفرس في علو السماء إلى من ألتجيء إلا إليك أيها المحب الإنسان والمحتمل نقائصه “اللهم ارحمني كعظيم رحمتك ومثل كثرة رأفاتك امح آثامي فإن خطيتي أمامي في كل حين إذ لك وحدك أخطأت والشر قدامك صنعت”، ولكثرة تعطفك اعرض عن خطاياي من أجل اسمك القدوس، ليس لي عملا صالحًا لكنني أطرح ذاتي أمام رأفاتك لتعطني قلبًا نقيًا فأتعبد لك منذ الآن وكافة أيام حياتي إذ تسبحك كافة القوات السمائية.
أيها الإخوة تعالوا كلكم واسمعوني أنا الحقير أفرآم، فنجلس فكرنا قاضيًا ليتأمل قلبنا، إن كنا سالكين كما تقول الكتب الإلهية أم نجحد الروح القدس الذي به ختمنا. فإن شاهد احدنا في ذاته شيئًا من النقص فليحرص أن ينمو بتواضع النعمة التي أخذها من ذلك المحب للناس. وإن كنا ملومين بالخطايا فلمَ نضجع أيها الإخوة التائبين إلى المسيح لأنه هوذا أتى اليوم المرهوب الذي فيه تظلم الشمس وتتساقط النجوم وتنطوي السماء كالدرج، ويضرب البوق العظيم بصوت مرعب، فيوقظ الموتى جميعهم وينهدم الجحيم ويجيء المسيح على السحب مع ملائكته القديسين ليدين الأحياء والأموات ويجازي كل واحد كأعماله.
بالحقيقة إنه لمرهوب جدًا ذلك المجيء لأنه عجيب يا أحبائي أن نبصر السماء مفتوحة والأرض متغيرة والموتى قيام… فالأرض تسلم جميع ما فيها وكذا ما افترسته الوحوش أو ما أكلته الطيور
إذ الكل يأخذ جسدًا آخر وحسب أعماله فأجساد القديسين تلمع أكثر من الشمس أضعاف أما الخطاة فتوجد أجسادهم مظلمة، ويصير فحص أعمالنا بشدة الكلام أم الأفكار… إلخ. هذه تصبح ظاهرة أمامه يبصرها جميعها. فلنجاهد يا إخوتي أن نفلت من التعيير والخزي المرهوب الذي لكافة الخطاة وأن نصير مشاركين تلك الخيرات التي أعدها الله للذين يحبونه. تلك التي تشتهي الملائكة أن تطلع عليها.
تأتي الملائكة فتخطف كافة القديسين بمجد لاستقبال المسيح فلنحرص يا إخوتي أن نكون مستحقين لذلك الاختطاف.
“لا نضجع أيها الإخوة المحبون للمسيح ما دام لنا وقت “بل لنحرص أن نغلب آلام الجسد والنفس.
هلموا يا إخوتي واسمعوا مشورتي أنا أفرآم الخاطيء والفاقد الأدب فها قد اقترب يا أحبائي ذلك اليوم المخوف ونحن في التواني والتتره غير مؤثرين أن نتفطن في عبور هذا الزمان اليسير ونحرص أن يغفر لنا الله. فها الأيام والشهور والسنين تعبر كالمنام. ومثل ظلام المساء ليوافي مجيء المسيح المرهوب العظيم لأنه بالحقيقة مرهوب للذين لم يؤثروا أن يعملوا مشيئة الله ويخلصون.
فأتضرع إليكم يا إخوتي هلموا فلنطرح عنا الاهتمام بالأمور الأرضية لأن كافة الأشياء تزول وتفنى، وليس ما ينفعنا في تلك الساعة سوى الأعمال الصالحة التي اكتسبناها هنا، لأن كل
واحد يحمل أقواله وأعماله قدام قضاء الحاكم، القلب والكليتان ترتعدا حين يصير فحص الأعمال والأفكار.
خوف عظيم يا إخوتي، رعدة عظيمة يا أحبائي. من ترى لا يرتعد، من ترى لا يبكي، من ترى لا ينتحب إذ هناك تظهر الأعمال التي عملها كل أحد في الخفاء والظلمة. افهموا يا إخوتي هذا المعنى… الأشجار المثمرة من باطنها في أوان الأثمار تبرز الثمر مع الورق، تكتسي من خارجها بجمال وحسن بهاء لكن من باطنها تغطي كل واحدة ثمرها حسب طبيعتها. هكذا في ذلك اليوم المرهوب يبرز كافة الناس وتظهر أعمالهم إن كانت صالحة أم شريرة، وكل واحد يحمل ثماره (أعماله) وأوراقه (كلامه) فالقديسون يحملون الثمر الغض نضارته، والشهداء يحملون فخر صبرهم على التعاذيب، النساك يحملون النسك والمسكنة، الحمية، السهر، الصلاة، والناس الخطاة المنافقون والدنسون يحملون ثمرًا قبيحًا، ويكونون مرعبين خزيًا وعبرات ودود لا يرقد في النار التي لا تخمد. مهول يا إخوتي مجلس القضاء هناك لأن كافة الأشياء بغير شهود تظهر الأفعال، الكلام، الأفكار. وبمحضر الماثلين هناك ربوات ربوات وألوف ألوف رؤساء ملائكة وملائكة، الشاروبيم والسارافيم الصديقين والقديسين الأنبياء والرسل الجماهير التي لا تحصى.
فلمَ نتوانى يا إخوتي الأحباء فإن الأوان قد حان، واليوم قد بلغ حين يظهر الحاكم المرهوب مكتوماتنا إلى النور، فلو عرفنا ما قد أعد لنا يا إخوتي لبكينا كل حين في النهار والليل، متضرعين إلى الله أن ينجينا من ذلك الخزي والظلمة المدلهمة لأن فم الخاطيء ينسد أمامه والبرية كلها ترتعد وكذلك تتزعزع القوات السمائية من ذلك المجد وقت مجيئه.
” ماذا نقول له يا إخوتي عن توانينا في ذلك الوقت يوم الدينونة؟” إنه يتمهل ويجذبنا كلنا إلى ملكه وسيطالبنا بجواب عن هذا التواني الذي لنا في ذلك الزمان اليسير فيقول لنا بذاته إني من أجلكم تجسدت، من أجلكم مشيت على الأرض جهارًا،
من أجلكم جلدت، من أجلكم بصق عليَّ، من أجلكم ُلطمت، من أجلكم صلبت مرفوعًا على خشبة، من أجلكم أنتم الأرضيين سقيت خلا لكيما أجعلكم قديسين سمائيين، وهبت لكم اُلملك الذي لي، أعطيتكم الفردوس وسميتكم كلكم إخوة لي وقربتكم إلى الآب وأرسلت إليكم الروح القدس. فأي شيء أكثر من هذا لم أصنعه لكي تخلصوا؟!
قولوا لي أيها الخطاة ما أصابكم من أجل السيد المتألم من أجلكم؟ ها قد استعد الملك فبحسب ما يسلك كل واحد يعطي.
ضع نفسك تحت نير الناموس حتى تصير حرًا بالحقيقة لا تتمم مشيئة نفسك منفصلة عن حد ناموس الله، لابد أن أكتب الكثير من الوصايا وأن أحضر العديد من الشرائع التي يمكن أن تتعلمها من نفسك إذا كنت تسعى إلى تحرير نفسك، وإذا كنت تحب النقاوة فلابد أن تقوم بتعليمها لآخرين أيضًا، لتكن الطبيعة هي كتابك الذي تقرأه، والخليقة كلها جداولك وتعلم منها الشرائع والناموس وتأمل المعرفة غير المكتوبة. الشمس في مدارها تعلمك الراحة من العمل والتعب، الليل في سكونه يعلن لك أن هناك حدودًا.
الصديقون تكون الدينونة نصب أعينهم دائمًا، كما أنه معد للناس أن يموتوا مرة واحدة ثم الدينونة. لذلك يطلبون ليلا ونهارا سائلين أن ينجوا من نار جهنم ومن العذاب الأبدي وأن يؤهلوا مع الملائكة وأما المنافقون فذكر الموت عندهم هو شيء ساذج مجرد لأنهم لا يجتهدون خائفين من الأمور التي بعد الموت بل ينتحبون على فقدهم الملذات ومفارقتها… إذ يكملوا القول “نأكل ونشرب فإننا غدًا نموت” ولا يهتموا بما ينفعهم بل يجمعوا بأيديهم ما لا ثمر له… والذين يحبون الثروة الأرضية فكافة عمرهم مشتغل بالرجاء الباطل، وبقدر ما يتسامى في الغنى بقدر ما تنمو لديه مخافة الموت كثيرًا… ليس من أجل جهنم وحكم الله العادل لكنهم يتحيرون في أنفسهم نائمين على ثروتهم قائلين ترى من يرث بعدنا، ومن يكون صديقًا للملوك ومن يرث المملكة بعدهم؟
ترى من يتملك هذا الذهب والفضة؟ ترى من يستخدم هذه الآلة الذهبية؟ ترى من يرث الحلل المذهبة؟ من يركب الخيل المنتخبة المذهبة لجمها؟ ومن يتقدم كثرة الغلمان؟ من يسكن في المجالس التي وشيتها أنا باهتمام الرخام والتي زخرفت أرضها بالفصوص المذهبة وسقفها بالذهب؟ ترى من يخدم أصحاب الموائد والسقاة؟ ترى لمن تمثل الخدم الذين يخدمون من يضجع على الأسرة المفضضة، ويستعملون الأطعمة التي أطايبها من الهند؟ من يستعمل الغلات الجيدة التي من الحقول والثمار الأولى التي للبساتين؟ من يصير خلفًا يتولى خزائن السلاح والمركبات والخيول؟
وإذا شدت أفكاره إلى جهات أخرى كثيرة ولا يجد من يلجأ إليه يتنهد ثم يعود أيضًا للاهتمام بالأرضيات غير مهتم أن
يكتر لنفسه في السموات شيئًا.
فإذا نال نهاية مأثوراته من توفر الغلات والبهائم وبهاء مرتبته، وشهامته في الحروب… فحينئذ ذكر الموت يزعج قلبه فإن ضعفت أعضاؤه بالشيخوخة ولم يستطع أن يخدم اللذات حينئذ يحقد على الحياة، وإن كان جافيًا متصلفًا يبعد ذكر الموت
بإفراط الرفاهية. إنه يضاهي المريض الذي يتظاهر بالصحة، ويأكل الأغذية التي تضاد المرض ويظن أنه بها يزيل المرض… لكن المرض قد شاع في أعضائه… وإذا فرح بمعاينة الجمال فليفكر في انتظار النوح وأن هذا الجمال يزول ويصير عوض هذا الحسن الظاهر الآن عظام مرفوضة منتنة.
المتوانون والمتهاونون تنقضي أيامهم في ظلمة الخطية ظانين أن ساعة الموت بعيدة عنهم فيماثلون الذين يمشون في ظلمة الليل إذ يظنون أن الموضع الذي يطلبونه بعيدًا عنهم.
والذي قد تأمل بعين نفسه الصافية طغيان هذا العالم وصار على سمو من تلك الأشياء التي ها هنا فإنه يتفطن دائمًا إن أكل
وإن شرب إن رقد وإن عمل. تستأنفه الطبيعة كل يوم وكل ساعة إلى نهاية العمر الوقتي فلذلك يعرض عن الأشياء كلها كأنها مثل كناسة تلقى في سلة المهملات فيحرص أن يبعد ذاته عن كل مرثاة العالم والتألم له. فمن يعقل المعقولات العلوية والمتسامي سعيه إلى الله فذلك على سمو منها. ساعيًا بكافة قوته وراء الفضيلة لأنه ليس أكرم منها قدرًا إذ تجعل الناس أحباء الله فكافة الذهب في عينيها تحتقره كالرمل، والفضة قدامها تحسبها كالطين، لا يضمرها الشقاء ولا يكمد نورها الموت المرهوب عند كثيرين فالذين قوموا الفضيلة بدالة يهتفون مع القائل “لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا إذا تركنا أعمال الأمم فلا نعود على الأشياء التي وراء أي التي قد مضت ونعملها أيضًا، قد جحدت الشيطان وملائكته دفعة ووقفت أمام المسيح بحضرة شهود كثيرين. فأنظر أمام من وقفت وتعهدت ولا تستهن به واعلم هذا أنه في تلك الساعة كتبت ملائكة أقوالك وتعهداتك وخضوعك وخبأوها في السموات إلى يوم الدينونة الرهيب. في ذلك اليوم يحضر الملائكة كتاب الوثيقة التي عليك وكلمات فمك يوم المقام المرهوب حيث يقف الملائكة مرتعدين وحينئذ تسمع الصوت المعطي الويل أيها العبد الخبيث من فمك أدينك بالحقيقة إنك تتنهد حينئذ تنهدًا مريرًا وتبكي في تلك الساعة ولا ينفعك شيء.
ارحم نفسك ولا تبغض ذاتك وأبصر كيف أن قومًا كثيرين يجاهدون، كيف يحرصون أن يخلصوا، كيف يتعبون ذواتهم في كل عمل صالح، كيف قد أعدوا مصابيحهم بهية، كيف يسبح فمهم كل حين، وعيونهم متأملة جماله ونفوسهم مبتهجة.
الويل منك أيها الموت فإنك أنت الغريم الذي لا يقضي، والمستقر الذي لا يرد، والسارق الذي لا يستحي، والمتسلط الذي لا يخاف، والرسول الذي لا يتأخر. ما أمر كأسك، وما أفزع لقائك، وما أرهب رؤيتك، وما أشد هيبة منظرك، وما أثقل قدومك، وما أكره شبهك، وما أشد ساعة مجيئك حول الإنسان، الويل لمن لا يستعد قبل نزولك به، والويل لمن يغفل ويتوانى حتى تأتي ساعتك.
طوبى لمن يجهد نفسه في صلواته قدام الله من قبل حضورك إليه طوبى لمن حرص في شفاء سقمه ومرضه ما دام هو في الدنيا، الموت يا إخوة أفضل من حياة الدنيا في الخطايا والذنوب.
كيف ندفن الموت ولا يرعبنا الموت؟ إن ذلك لقساوة قلوبنا وترك وصاياه، ثم أننا ننسى ونتهاون ولا نبالي، فالآن يا إخوتي ينبغي أن ننظر الموت.
ونقول أين من كان بالأمس معنا وها اليوم آخرون يحملونه إلى القبر؟!
أين الملك الذي صار صنمًا لا يبصر ولا يسمع ولا يقدر أن يدفع جوابًا عن نفسه؟
أين الذين كانوا في النعيم واللذة وصار نعيمهم إلى لا شيء؟ أين الجميل الوجه الذي صار منظره بشعًا لمن يراه؟
أين القوي والذي كان قد ظفر وغلب؟
أين الصورة الحسنة التي قد فسدت وتلك الأعضاء التي تعظمت؟
أين الرأي الملتمس والكلام الذي قد بطل وذلك الجسد المنحل؟ حيث لا فرق بين عظام الملوك وعظام الفقراء!
فالآن يا إخوة لنهتم بأمر الموت ونترك عنا كل شر ونعمل الصلاح والخير دائمًا… ونحرص أن نكون في طاعة الله، وحفظ
وصاياه وفعل محبته، ونتذكر الموت، وننظر إلى الميت فنجد فمه مغلقًا ولسانه معتقلا. فلنتضرع قبل أن يترل بنا فجأة يا إخوة لابد من شرب كأس الموت المر ولذا ينبغي لنا أن نكون مهيئين لتلك الساعة الشديدة ونبعد عنا الضحك والهزء والمزاح والإعجاب والصلف والعظمة، ونحرص في اقتناء الاتضاع والزهد ونقرع ونخاف ونقول أين الذي نصب نصبه (غرسة) ومنه لم يأكل؟!
أين الذي أسس وبنى وفي مترله لم يثبت؟
أين الذي ربط بيديه ولم يحل ما ربط؟!
أين الذي عمل وربح ومنه لم ينتفع لأبديته وصار ما له لإخوته؟!
أين الذي كان يحرص ويجتهد ويحتال وصار منه غريبًا؟ فالموت كان يطرق بابه؟
أين الذي أهلكه التعب والحرص فصار كده وسعيه لغيره؟
أين الذي كان يدخل ويخرج فإن خرج ولم يدخل؟
أين الذي كان يشيع آخرين فصار مشيعوه ينصرفون عنه وهو ليس معهم؟!
أبوك الذي ولدك يدعوك إلى القبر وينصرف عنك، وأمك التي ولدتك وربتك وكانت تحبك تجعلك في القبر وتنصرف عنك! وكذلك إخوتك وأصدقاؤك الذين كانوا عندك كنفسك فإنهم إلى القبر يصحبونك ويحزنوا، فإذا غلق القبر انصرفوا ونسوا صحبتك القديمة التي كانوا عليها كقول داود النبي “نسيت من القلب كالميت” فلذلك يا إخوتي ينبغي أن ننتبه ونخشى الرب ونحرص لطاعته ورضاه فإن كل شيء يذهب ويبطل والرب دائم إلى الأبد، ينبغي أن نتفكر الموت… ونشكر الرب الذي أمات الموت.
ينبغي أن ننتبه في أمر الموت: فمن كان سيدًا على ما يملك ويحكم فيه كيفما شاء صار مرفوضًا كحيوان ميت، وقد صار هذا الإنسان غريبًا عن جميع ما يملك وصار كده وسعيه إلى غيره من ذوي جنسه، وصار غريبًا عن أهله وأحبائه، وليس لأهل الميت يا إخوة إلا أن يسرعوا بإخراجه من مترله في حزن حتى يدخلوه إلى القبر ثم يدعوه وحده وينصرفوا وهو نفس مصير غيره عند نزول الموت.
فأين الذي تعب ولم يبق حتى ينظر إلى نتيجة تعبه؟ ماذا انتفع حيث تركه لغيره وانصرف عريانًا؟!
فتفكروا في الذين قبرتموهم واحذروا مما نزل بهم قبل نزوله بكم.
الروح القدس يوضح للإنسان ما هو الطريق الصالح وما هو الطريق غير الصالح… حتى إذا ما عرف الإنسان مجازاة كل منهما يهرب من الشر فإن كان يعرف ولا يهرب فأي عذر له في يوم الدينونة؟
لقد تذكرت تلك الساعة الرهيبة وارتعدت، وتأملت تلك الدينونة المفزعة فانذهلت للسرور الذي في الفردوس فبكيت وتنهدت حتى لم يبق فيَّ قوة لأبكي لأن أيامي قد عبرت في التواني والتتره وفي الأفكار الدنسة أكملت سني حياتي… كيف سُرقت ولم أعلم وكيف عبرت ولم أحس. أيامي فنيت ومآثمي تكاثرت. ويلي ويلي يا أحبائي ماذا أصنع لخزي تلك الساعة إذا التف حولي الذين يطوبوني وأنا من داخل مملوء إثمًا ونجاسة متناسيًا الرب الفاحص القلوب والكلى.
أيها الصالح… ترآف عليّ… أعطني بكاء وتخشعًا دائمًا، ولقلبي تواضعًا وطهرًا ليصير هيكلا لنعمتك المقدسة.
يا إخوتي الأحباء أتضرع إليكم أن تحرصوا على إرضاء الله. ابكوا قدامه نهارًا وليلاً في صلواتكم وتسابيحكم لينقذكم من ذلك البكاء الذي لا ينقضي ومن صرير الأسنان ومن نار جهنم ومن الدود الذي لا ينام، ويفرحكم في ملكوته بالحياة حيث يهرب الوجع والحزن والتنهد وحيث لا يحتاج أحدًا دموعًا ولا توبة، وحيث لا رعدة ولا خوف، وحيث لا يوجد المحارب والمعاند، حيث لا خصام ولا سخط… لكن الفرح والسرور الدائم والمائدة الروحانية التي أعدها الله للذين يحبونه. فمغبوط بالحقيقة من يؤهل لها وشقي من يتركها.
أطلب إليكم يا أحبائي أن تصلوا لأجلي… ليصنع معي رحمة… انفضوا لي من فتات موائدكم فيتم القول “الكلاب أيضًا تشبع من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها.
فلنحرص يا إخوتي لأجل حياتنا فإن الأشياء كلها تعبر كالظل، ولنبغض العالم وكل الاهتمام البشري “… إذ ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه أو ماذا يعطي فداء عن نفسه.
أيها الحبيب، تأمل في كل صباح ومساء كيف تنجز، وفي كل عشية أدخل إلى قلبك، وتفكر في ذاتك قائلا أتراني أغضبت الله في شيء؟ أتراني تكلمت كلمة بطالة؟ أتراني أغظت أخي؟ أتراني تخيل ذهني أمور العالم وشهواته وقبلتها بتلذذ.
تنهد وابك وفي الصباح ادرس الوصية، وقل كيف أمضيت هذه الليلة؟ هل ربحت تجارتي؟ هل دمعت عيناي دموعًا حين أحنيت ركبتاي أم جاءت إلىَّ أفكار خبيثة؟
احذر أن تدفع ذاتك إلى التواني… أنظر إلى النحلة، وأبصر سرها العجيب كيف تجمع رحيقها من الأزهار على اختلاف أنواعها، فإن اجتمع كافة حكماء الأرض لما استطاعوا أن يصنعوا حكمتها إذ كيف تدفن أولادها في خلاياها وحين يخرجون يستمعون كلهم إلى صوتها ويتطايرون كما يأمر الرئيس قواده وتملأ مكانها من أطعمتها الحلوة (عسل النحل) فأية حكمة وهبت لتلك الحشرة الصغيرة… فأبصر أنت يا حبيبي مثل تلك واجمع من الكتب الإلهية غنى وكترًا لا يسلب… وكما يرسل الرئيس غلمانه قدامه إلى البلد التي يسافر إليها هكذا أرسل أنت غناك إلى السماء لتقبل في مساكن القديسين ولا تتوان في هذا الزمان القصير.
الوجه المغسول بالدموع مع قلب نقي له ذلك الجمال الذي يلمع أكثر من الشمس بين يدي الله والقديسين.
احرص أن تقتني الفضيلة التامة الموشاة بكافة المناقب التي يحبها الله ولا تعمل بقريبك سوءًا… إن كافة الفضائل مثل تاج
الملك ويصير غير تام إن كان ينقص إحداها”… الفضيلة إذا ربطت بأحد الأمور الأرضية تموت “وتنقسم وتهلك ولن يمكنها الارتقاء إلى أعلى إذا سمرت بأمر أرضي. فلتتنهد وتبك عليها إذ بعد أن ارتفعت إلى السماء وبلغت باب الملك بنفسها لم تستطع أن تدخل مثل أناس قوموا الفضيلة بربوات أتعاب ووشوها مثل تاج الملك فلما ارتبطوا بأمر أرضي وقفوا خارج الملك السمائي. فاحذر لئلا تدفع ذاتك للعدو وتنقض الفضيلة التي اقتنيتها بأتعاب جزيلة. فحرك ذاتك وانهض واقطع تلك الشعرة الحقيرة لئلا يستهزأ بك مثل شمشون الجبار. أصغ إلى ذاتك وكن مثل غواص يغوص في العمق ليجد الدرة الثمينة. إذا وجدها يصعد بها إلى أعلى المياه وهو عار، هكذا أنت جرد ذاتك من جميع أدناس العالم والبس هذه الفضيلة وتزين بها وتيقظ ليلا ونهارًا. إذ مثل تلك النفس لا يكون لها محبة لشيء آخر غيرها. وهكذا تنمو أكثر وتكلل وتنجح لدى الله دائمًا بل ويتباهى جمالها وإذا خرجت من الجسد يبتهج بها الملائكة ويدخلونها إلى ابي الأنوار إله المجد المتعطف وحده.
لماذا لا نستعد ولدينا وقت؟ لماذا تتهاونون بالكتب المقدسة وبكلمات المسيح أو تظنون أن أقواله وأقوال قديسيه لا تديننا في ذلك اليوم إن لم نحفظها ونعمل بها. قد سمعتم قول الرب للتلاميذ الذي يسمع منكم يسمع مني ومن يخالفكم يخالفني. وفي موضع آخر يقول من يخالفني ولا يسمع أقوالي أنا لا أدينه لكن له من يدينه. القول الذي قلته ذاك يدينه في اليوم الأخير.
طوبى للذين عطشوا وجاعوا فإنهم هناك سيشبعون وويل للشباعى فإنهم هناك يجوعون ويعطشون. طوبى لمن افتقروا وبكوا فإنهم هناك يتعزون وويل للذين يضحكون الآن فإنهم هناك سينحون ويبكون بلا فتور، طوبى للذين رحموا فإنهم هناك سيرحمون وويل لمن لا رحمة لهم.
اسأل نفسي أين سيكون مسكني عندك يارب الدهور؟ في ذلك الدهر العتيد بعد كمال عمري وانتهاء حياتي أسيكون حظر بين المتوجعين في قاع الجحيم؟ أم أكون بين المترنمين بالسرورعلى أسوار أورشليم؟ أسيكون مقامي في الظلمة أم في النور؟ أفي الشدة أم في بهجة النعيم؟
ضع فكرة الموت نصب عينيك دومًا وكلما شيعت ميتًا تذكر أنك ستشيع يومًا، فابك إذن واندب نفسك، وأطلب الرحمة من ربك، مثلما تتساقط الأوراق من الأشجار هكذا يتساقط البشر من الحياة، فكلما هبت ريح الموت ولست واثقًا من إفلاتك، فاربح نفسك بالتوبة لتحيا حياة أبدية. إلى متى تهمل نفسك مالي أراك ممعنًا في الخطية وكأني بك لن تموت؟!
تقول وما يضير إن أخطأت في صباي؟ ترى ما حياتك إن خطفتك يد المنون خلسة؟ إنك تأمل أن تتوب في شيخوختك فهل أنت واثق من بلوغها؟
وقال: مررت ذات يوم بباب القبر متأملا فرأيت العالم في حقيقته، رأيت العبد وسيده، والتلميذ ومعلمه سواسية. أجل رأيت الملوك راقدين وقد نُزع منهم سلطانهم.
أنت واثق من بلوغها؟
وقال: مررت ذات يوم بباب القبر متأملا فرأيت العالم في حقيقته، رأيت العبد وسيده، والتلميذ ومعلمه سواسية. أجل رأيت الملوك راقدين وقد نُزع منهم سلطانهم.