الكاتب مجهول
أنت عظيم أيها الكاهن، وقد دعاك الكلي العظمة لتقوم بعجائب، أو بالأحر اختارك ليقوم هو من خلالك بعجائبه، فمن لا فم له اختارك لتكون فمه، ومن لا أيدي له اختارك لتوصل نعمه… اختارك وفي كل اختيار دليل على الحب، فمن لا يحب لا يختار.
اختارك يسوع ليحيى معك في وحدة كاملة تشمل كل حياتك، وتحتاج كل قلبك، فهل من بهجة أكثر من انك، خلال الذبيحة الإلهية، تقول: “هذا هو جسدي، هذا هو دمي”، وكأنه هو الذي يقول من خلالك. ففي الذبيحة، في كل ذبيحة، تصير أنت والمسيح واحدا، وتقدم لله الآب جسدك ودمك تماما كما فعل الابن في عشائه الأخير… أنت تقدم الذبيحة، وأنت نفسك تصير الذبيحة، تصير تلك القربانة التي تقدمها، لأنك تصير مع الحمل واحدا… إنها عظمة تدعو للرهبة، عظمة لا تفهم إلا من خلال الحب الهي المجاني لك، نعم لك أنت باسمك وشخصك وضعفك وقوتك.
الملائكة يتمنون ويشتاقون أن يكون مكانك لحظة التقديس، فالملائكة، التي تحيى في حضن الثالوث، وتستطيع أن تعبد وتمجد الله إلا أنهم لا يستطيعون أن يلمسوه، أما أنت فكل يوم تجسد “الله الكلمة” فوق المذبح، ففوق مذبحك يولد المسيح، كم ولد من أحشاء العذراء في بيت لحم. المسيح ولد مرة واحدة من مريم العذراء، الكاملة القداسة والطهر، ولكنه يولد من خلالك كل يوم كل مرة ترفع فيها قداسك.
إن كرامة الكاهن أعظم وأكثر من كرامة الملائكة، فالملائكة القديسون، تلك الأرواح السمائية، لا تستطيع أن تقوم بما تقوم أنت به، فلا الملائكة أو رئيس الملائكة ولا الشرابين ولا السرفيم يستطيعون أن يغفروا الخطايا “فالله وحده هو الذي يغفر الخطايا”، وقد اختارك وأعطاك هذا السلطان فأصبحت، منذ لحظة رسامتك، تشارك الله سلطان مغفرة الخطايا.
الملائكة برغم من أنهم يرون الله وجها لوجه إلا أنهم لا يستطيعون إلا أن يطيعوه، أما أنت فتأمره أن يترك سماء سمواته ليحل على القرابين المرفوعة فيطيعك.
الملائكة تحسدك لأنك تستطيع أن تتألم من أجل حبك للمسيح أما هم فلا. أنت تستطيع أن تشارك المسيح آلامه، أما هم فينظرون فقط. فكم من مرة تمنوا، ولا زالوا يتمنون، أن يحيوا لحظات آلام وموت المسيح، ولكنهم لا يستطيعون! في حين أن ابسط كاهن يستطيع أن يحيا مع المسيح آلامه، يستطيع أن يصطحب المسيح في طريق الجلجثة، طريق الصليب. لكم هو عظيم أن تشارك من احبك، ومن تحبه، آلامه. إن سر الآلام إذا ما فهم على انه مشاركة الحبيب آلامه يتحول من سبب حزن إلى ينبوع فرح ورجاء.
كم أنت عظيم ومحبوب من الله، انك نجمة تعكس بهائه، تبدد الظلمات، وتزرع في القلوب الحزينة الرجاء، انك الجمر الذي يطهر وينقي الشفاه النجسة، انك الطريق الذي يوصل الله بالبشر، والبشر بالله.
فيدك أيها الكاهن هما المزود الذي يولد فيه المسيح كل يوم. فمن خلال يديك يحول الله الخبز والخمر لجسد ودم ابنه الحبيب. ومن خلالهم يعطي غفرانه للخاطئين. إنهما يدان يحرران النفوس المقيد بسلاسل الخطيئة، يوصلان حرية ورحمة وغفران الله.
تفوق كرامتك كرامة وبهاء الملوك والملائكة، إن الكاهن أعظم من الملك بمقدار ما الذهب أعظم من الرصاص، إذا رأيت ملاك من الملائكة وكاهن، اسجد أولا للكاهن ثم بعد ذلك اسجد للملاك. فالكهنوت هبة المسيح للبشرية تلك الهبة التي بها يواصل حضوره بيننا، فالكاهن، كل كاهن، هو موضوع حب الله، لأن الله يري في وجهه وجه ابنه.
الكهنوت سر عظيم من أسرار الإيمان، أمامه نشعر بضآلتنا وبعظم حب الله، سر يرتبط كل الارتباط بسر الكنيسة الجامعة الواحدة المقدسة. ولذا فالكنيسة، الأم والمعلمة، أعطت طوال تاريخها وتقليدها المقدس مكانة عالية لسر الكهنوت، واعتبرت دائما أن الكاهن هو “مسيح أخر”. لأن الكاهن عندما يبارك يبارك الله، وعندما يغفر يغفر الله، وعندما يصلي يتجسد الله، فالكاهن هو وكيل المسيح وتلميذه، ولهذا قال القديس توما الأكويني: “إن عظمة وكرامة الكهنوت تفوق عظمة وكرامة الملائكة”. فالكاهن هو الخليقة الأكثر عظمة بين كل خلائق الله العظيمة.
إن الكاهن إذا أدرك عظمة دعوته لظل أمام بيت القربان يصلي ليلا ونهارا، يخاطب الله يقص له خطايا شعبه وينقل له آلامهم ويريه كيف يحيون… ويأخذ منه نعمه وغفراناته ويعطيها لهم.
فنعم الكهنوت التي لا تحصى ولا تعد تحل فقط على من يريدها ويطلبها بحرارة، فنعمة الكهنوت ككل النعم، لا تفرض نفسها فرضا، بل تعرض نفسها مجانا وتنتظر القبول.
فالكاهن الذي لا يصلي ولا يتكلم مع الله لا يستطيع أن يقود الصلاة أو أن يتكلم عن الله. والكاهن الذي لا يعرف كونه خاطئ ومحتاج للغفران، ولا يطلب الغفران من الله، لا يستطيع أن يعطى الغفران للآخرين. والكاهن الذي لا يتكلم مع شعبه ولا يحيا معه ولا يعرفه لا يستطيع أن يقدمهم لله أو أن يقدم الله لهم.
فأنت أيها الكاهن وجود مقدس، أنت ممثل حضور الله على الأرض. فصحيح انك إنسان كالآخرين، ولكن الله اختارك وقد تجاوبت مع اختياره، فأصبحت منذ لحظة رسامتك تابع له، تلميذ لديه، رسولا له… فحياتك واختياراتك وأفكارك ومشاعرك وأفراحك وآلامك وأحزانك ليس لك وحدك بل له أيضا.
فيجب أن تعلم أن الكهنوت هو إتباع جذري للمسيح، فمن لديه الكثير سيطالب بالكثير، وما من احد لديه ما لديك ولا حتى الملائكة. وقد كتب الأب بيو: “الكاهن يجب أن يكون مسيح آخر، مفكرا دائما في المذود، يجب أن يكون متواضعا وفقيرا، لأنه كلما صار كذلك كلما أعطى مجدا أكثر لله، يجب أن يكون متحررا من كل شيء”، فسر نجاح الكاهن يكمن في فهمه لسر آلام المسيح، فكاهن يهرب من الصليب كجندي يهرب من الحرب، فبلا صليب لا قيامة، وبلا آلم لا انتصار.
طريق الكهنوت طريق لا يحتمل “الوسطية” فإما أن تكون مع المسيح أو تكون ضده. فليس التلميذ أفضل من معلمه، وقد تجلت عظمة المسيح لا في المعجزات أو التجلي فحسب، بل عندما انحنى وغسل أرجل تلاميذه: “أنت تدعوني ربنا ومعلما وحسنا تفعلون لأني هكذا”… “لم آتى لأخدم بل لأخدم”،”أليس العظيم من يجلس على المائدة، ولكني بينكم كالذي يخدم”….
فالمسيح عندما غسل أرجل تلاميذه قام بعمل لا يقوم به إلا الخدم أو العبيد، مؤسسا معنى الكهنوت، فالكاهن هو الخادم للجميع، لاسيما للأكثر احتياجا والمنبوذين اجتماعيا.