القديس يوحنا ذهبي الفم
لقد حزنت بسبب تغيبي عن اجتماعكم السابق، ولكن بما أنكم تمتعتم بمائدة غنية، فقد سبّب هذا لي فرحاً عظيماً، لأن شريكي في هذه الخدمة قد قام بنفس عملي، وألقى البذار بكلام دسم وخدم باهتمام كبير في حقل نفوسكم. فقد رأيتم اللغة النقية وسمعتم الكلمة الرصينة وتمتعتم بماء ينبع إلى حياة أبدية، رأيتم ينبوع تتحرك منه أنهار من ذهب. ويُقال إن هناك نهر يحمل نخالة ذهب لكل من يسكنون حوله من البشر، لا لأن طبيعة الماء تنتج ذهباً، لكن لأن منابع النهر تخترق الجبال، التي تحمل في باطنها هذه المعدن (الذهب)، ومن بين هذه الجبال، يندفع النهر إلى أسفل، فيسحب معه الطين المُحمل بالذهب، فيصير كنزاً لكل الساكنين حوله، فيفيض عليهم بالغنى. لقد تمثل هذا المعلم (مكسيموس)، بذلك النهر، في الاجتماع السابق، إذ أنه نهل من الكتب المقدسة كما من جبل مليء بالذهب، حاملاً إلى نفوسكم المعاني، التي هي أثمن من الذهب. وأنا أعرف طبعاً أن ما تحتاجون اليوم هو ما أحتاجه أنا أيضاً، لأن من يتمتع بمائدة فقيرة، إذا حدث في إحدى المرات أن جلس على مائدة غنية، ثم عاد بعد ذلك مرة أخرى إلى مائدته الفقيرة، حينئذٍ سيدرك جيداً، النقص الشديد في محتويات هذه المائدة الفقيرة.
لكن هذا السبب لن يجعلني اليوم أبدأ العظة اليوم بفتور، لأنكم تعرفون، وقد تعلمتم من الرسول بولس، أن تشبعوا، وأن تجوعوا، وأن يفضل عنكم، وأن تُحرموا، وأن تُعجبوا بالأغنياء، وألأّ تزدروا بالفقراء. وكما أن أولئك الذين يحبون النبيذ، يقبلون النبيذ الجيد، إلاٌ أنهم لا يحتقرون النبيذ الأقل جودة. هكذا انتم أيضًا، فإذا تشتهون سماع الكلمة الإلهية، فانتم تقبلون المعلمين الأكثر حكمة، لكنكم تُظهرون أيضاً شوقاً ورغبة لسماع المعلمين الأقل حكمة. فالكسالى والفاسدون يشمئزون حتى أمام المائدة الغنية، أما من لديهم شهية ورغبة ويقظة روحية ـ فلأنهم جياع وعطاش إلى البر، فهم يركضون باشتياق كبير حتى نحو المائدة الفقيرة أيضًا. وما أقوله ليس تملقاً، فهذا ما أظهرتموه بأكثر مما ينبغي، في العظة السابقة التي قدمتها لكم.
ففي تلك العظة كلمتكم كثيراً عن الزواج، وأظهرت أنه إذا طلق الرجل امرأته، وأخذ امرأة مُطلقة، بينما زوجها السابق على قيد الحياة، فهذا يُعد زنى حقيقي. وقد قرأت لكم وصية المسيح التي تقول: “من طلق امرأته إلاٌ لعلة الزنى يجعلها تزنى ومن يتزوج بمطلقة فإنه يزنى” (مت 5 :32). وقد رأيت كثيرين ينُكسون رؤوسهم إلى أسفل، ويلطمون وجوههم، ولا يستطيعون بعد أن يرفعوا رؤوسهم. ثم بعد ذلك يرفعون عيونهم إلى السماء. فقلت، لتكن أنت مباركاً يا إلهي لأنني لا أكلم آذاناً صماء، لكن كل ما أقوله يحدث تأثيراً قويا ً في أذهان السامعين. طبعاَ من الأفضل ألا يخطئ أحد مُطلقاً. لكن ينبغي على الخاطئ أن يحزن حزناً عميقاً ويدين نفسه، ويقبل تأنيب ضميره ويحاسب نفسه بتدقيق، وهذا ليس بأمر هين من جهة خلاصه لأن هذه الإدانة للذات تقود إلى التبرير، وتؤدي بنا بالتأكيد في الاتجاه الذي يجعلنا لا نخطئ. ولهذا فإن القديس بولس بعدما حزن من أجل هؤلاء الذين سقطوا في الخطية، فرح، لا لأنه أحزنهم، لكن لأن حزنهم قادهم إلى التوبة، فقد فرح قائلاً: “الآن أنا أفرح لا لأنكم حزنتم بل لأنكم حزنتم للتوبة. لأنكم حزنتم بحسب مشيئة الله لكي لا تتخسروا منا في شيء. لأن الحزن الذي بحسب مشيئة الله يُنشئ توبة لخلاص بلا ندامة” (2 كو 7 :9-10). وسواء كنتم تحزنون لأجل خطايا الآخرين، فإنكم تستحقون كل مديح. لأنه عندما يحزن أحد لأجل خطايا الآخرين، فإنه يُظهر بهذا، أن له قلب رقيق مثل الرسول بولس، هذا الإنسان القديس يقول. “من يضعف وأنا لا أضعف من يعثر وأنا لا ألتهب” (2 كو11 : 29)، فلنتشبه به. فهو من جهة الأمور الخاصة به لم يتكلم، والعقوبة التي انتظرته، من جهة كل ما تجرأ وصنعه (أي اضطهاده للكنيسة) حتى وقت أي تحوله للمسيح، قد مُحيت، ومن جهة الأمور المستقبلة، فإن هذا الحزن ولٌد عنده يقيناً شديداً. ولهذا أنا أراكم تُنكسون رؤوسكم إلى أسفل، وتتنهدون، وتلطمون وجوهكم، ولذلك فرحت جداً وصرت أفكر في الثمر الذي سيأتي من وراء هذا الحزن.
ولهذا فإنني سأحدثكم اليوم في موضوع الزواج ـ حتى أن كل من يرغب في التقدم للزواج عليه أن يبدي اهتماماً به في أوانه. فعندما يتعلق الأمر بشراء عبيد أو بيوت، فإننا نفحص بعناية أولئك الذين يبيعون وأيضاً نفحص العبيد أنفسهم الذين ننوى شراءهم وحالتهم النفسية والجسدية، وإذا تعلق الأمر بأحد المباني فإننا نفحص حالة المبنى ومواصفاته بكل تدقيق. فبالأحرى كثيراً جداً إذا تعلق الأمر باختيار زوجة، فإنه يجب علينا أن نبدى مثل هذا الاهتمام بكل عناية وتدقيق. لأنه إن كان البيت معيب يمكن الرجوع فيه، والخادم إذا ثبت أنه غير نافع يمكن رده لبائعه. لكن إذا تعلق الأمر باختيار زوجة، فإنك لن تستطيع أن تردها إلى أهلها مهما حدث. فقط إذا وقعت في خطية الزنا، تستطيع أن تنفصل عنها بحسب وصية الله. وإذا كنت تنوي اختيار زوجة لك، لا تقرأ فقط شرائع هذا العالم، لكن عليك قبل أن تلجأ إلى هذه الشرائع أن تطٌلع على تعاليم الكنيسة. لأنك ستدان بهذه التعاليم في يوم الدينونة وليس بقوانين هذا العالم. إن تجاهل قوانين هذا العالم عادة ما يسبب ضرر مادي، أما تجاهل تعاليم الكنيسة فإنه يؤدي لعقوبات شديدة.
أهمية التدقيق في اختيار الزوجة:
وإذا أراد الإنسان إختيار زوجة له، نجده يُسرع نحو مُشرعي هذا العالم ويفحص بكل تدقيق الأمور المتعلقة بالزواج، ويسألهم عن النتائج التي يمكن أن تحدث في حالة موت الزوجة التي لها أولاد، أو ماتت ولم تنجب؟ وكيف يكون الأمر لو كان والدها ما زال على قيد الحياة؟ وما هو حجم الميراث الذي يؤول إلى أخوتها وحجم الميراث الذي يؤول إلى الزواج، ومتى يكون له كل الحق في الميراث ومتى يخسر كل شيء؟ وأمور أخرى كثيرة يطلب معرفتها من مُشرعي هذا العالم حتى يتأكد أن كل ممتلكات الزوجة تؤول اليه، ولا يذهب منها حتى ولو جزء صغير إلى أحد أقاربها.
صفات يجب توفرها عند الاختيار:
كيف لا يكون إذن، أمراً غير منطقي أنه إذا تعلق الأمر بالأموال التي ستنتهي، أن نبدى كل هذا الاهتمام، أما بالنسبة للنفس، التي هي أثمن من كل شيء لا نوليها أي اهتمام ولو بجملة واحدة؟، بينما يجب علينا وقبل كل شيء أن نعرف كل ما يتعلق بالنفس كل جوانبها. لذلك فإنى أنصح كل من يرغب في الزواج أن يقرأ ما كتبه القديس بولس، فيما يتعلق بوصايا الزواج الموجودة في رسائله. لكي يتعلم منها ماذا يجب عليه أن يفعل قبل أن يُقدم على الزواج. فهل تستطيع أن تقبل زوجة سيئة النية، خبيثة، مدمنة للخمر، غير متعلقة ولسانها غير مُنضبط؟ فأن كان غير مسموح أن تتخلص من الزوجة حتى ولو كانت تحمل كل هذه النقائض، إلاٌ في حالة الزنا فقط كما تأمر الوصية، فعليك أن تفحص الأمر بالتدقيق وتبحث عن كل الطرق التي تضمن لك أن تختار زوجة مؤمنة لها فكر مستقيم وعلى جانب من التواضع. فلهذا عليك أن تختار بين أمرين، وهو أمر لا مفر منه، إما أن تأخذ لك زوجة سيئة وتحتملها، وإما أن ترفض احتمالها، وتتخلص منها فتقع في حالة الزنا. فالرب يقول: “وأما أنا فأقول لكم أن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزنى ومن يتزوج مطلقة يجعلها تزنى” (مت 5 :32).
فلو أنك فكرت في هذه الأمور جيداً وأدركت أهمية هذه الوصايا، تستطيع أن تختار زوجة مناسبة وموافقة لحياتك.
المحبة للزوجة:
فلو عثرنا على الزوجة المناسبة، فلن ننفصل عنها أبداً وستكون محبوبة جداً لدينا. والرسول يقول: “أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضاُ الكنيسة وأسلم ذاته لأجلها” (أف 5: 25). فهو لم يتوقف عند عبارة أحبوا نساءكم، بل أعطى معياراً للمحبة وهو كما أحب المسيح الكنيسة وأسلم ذاته لأجلها.
إذن، لو احتاج الأمر أن تموت من أجل زوجتك لا تتردد.
لأن السيد الرب قد أحب عبدته حتى أنه قدم نفسه لأجلها، فبالأولى جداً يجب أن تحب من هي شريكتك في العبودية. لكن ربما جمال العروس وفضيلة نفسها هي التي جذبت انتباه العريس. لا نستطيع أن نقول هذا. لأنها كانت قبيحة ودنسه، لأن الرسول بولس يقول: “وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها مظهراً إياها بغسل الماء بالكلمة” (أف 5 :26).
تمثل بالمسيح في معاملة زوجتك:
وطالما قدسها، أظهر أنها كانت دنسة وملوثة من قبل. هذا بالطبع لم يكن مصادفة، بل كانت نجسة بجملتها. ومع هذا لم يأنف من قبحها ولم يتقزز، وأعاد تشكيلها وأصلحها وغفر لها خطاياها. وأنت أيضاً يجب عليك أن تسير في خطى سيدك. فإذا أخطأت الزوجة من نحوك، فعليك أن تغفر لها وتسامحها عن هذه الخطايا. ولو أنك تزوحت وكانت زوجتك سيئة، أصلها برقتك ووداعتك، كما أحب المسيح الكنيسة. لأنه لم يمسح عنها فقط دنسها، بل أعاد لها أيضاً شبابها، وحررها من الإنسان العتيق الذي شكٌلته الخطية. لذلك يقول الرسول بولس “لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب” (أف 5 :27). لأنه لم يجعلها فقط جميلة، بل جديدة، لا بحسب الطبيعة الجسدية، بل بحسب حرية الاختيار.
ليس هذا فقط ما يستحق الإعجاب، أنه أخذها قبيحة، بذيئة لكنه أسلم ذاته للموت، وأعاد صياغتها وصار لها جمال لا يعبر عنه.
وعلى الرغم من كل هذا، فمرات كثيرة يرى النفس تتسخ وتتلوث، ومع كل هذا لم يتركها، ولم ينفصل عنها، لكنه ظل بالقرب منها مداوياً لأوجاعها ومصححاً لمسيرتها.
لأن كثيرين أخطأوا بعد أن آمنوا. ومع هذا لم يتأفف منهم.
على سبيل المثال عندما وقع عضو من كنيسة كورنثوس في خطية الزنا لم يُقطع، ولكنه أُصلح وعاد إلى وضعه الطبيعي. كل كنيسة الغلاطيين تقسّت ووقعت في التهود. حتى هذه لم يعزلها، لكنه شفاها بواسطة بولس، وأحضرها مرة أخرى لعلاقتها السابقة معه.
فكما أنه ظهور مرض ما في أحد أعضاء الجسد، فنحن لا نلجأ لبتر هذا العضو، بل نقاوم المرض. هكذا لابد أن نعامل الزوجة.
فلو بدا عليها أي خطأ، لا تطلق، لكن يُقوّم هذا الخطأ.
مع الوضع في الاعتبار أن تقويم الزوجة أمر ممكن، بينما العضو الجسدي عندما يفسد تماماً، لا نستطيع علاجه. ومع هذا، وعلى الرغم من التأكد من أن هذا العضو غير قابل للشفاء، فإننا نبقى عليه ولا نلجأ إلى قطعه. فهناك كثيرون مبتوري الرجل أو اليد أو ذوى عيون كفيفة، فلا العين يخلعها ولا الرجل يقطعها ولا أيديهم يلقونها عنهم. على الرغم من أنهم متأكدون أنه لا نفع من هذه الأعضاء، إلاٌ أنهم مستمرون في معاملتها برفق بالنسبة لسائر الأعضاء.
لا طلاق:
كيف لا يكون أمراً غير منطقي إذن ـ طالما لا يمكن إعادة حيوية العضو المريض والذي انعدمت منه كل منفعة ـ أن نجد مثل هذه الرعاية، وكيف لا يحدث الشفاء عندما يكون هناك رجاء مجيد ويوجد الأمل في التغيير؟ لأن الاختيارات غير المناسبة يمكن تصحيحها وتقويمها. ولو قلت لي أن حالتها لا يمكن علاجها، حيث عوملت برفق وعناية، ومع هذا لم تُغير من أسلوب حياتها، أجيبك بقولي إنه على الرغم من كل هذا لا يجب أن تُطلق، فكما أشرنا أن العضو غير القابل للشفاء لا يُقطع، والزوجة أيضاً عضو من أعضائك كقول الكتاب: “ويكوناً جسداً واحداً” (تك 2 :24). فحتى ولو كانت مستعصية العلاج، يكفيك المجازة العظيمة لصبرك واحتمالك الكثير. لأن مخافة الله تجعلنا نصبر ونحتمل بكل وداعة سوء حالة الزوجة. فهي كعضو من أعضائنا يجب أن نحبها، الأمر الذي علّم به الرسول بولس قائلاً: “كذلك يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم كأجسادهم. من يحب امرأته يحب نفسه فإنه لم يبغض أحد جسده قط بل يقوته ويربيه كما الرب أيضاً للكنيسة لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه” (أف 5 : 28 ـ30). ويقول: كما أن حواء أتت من جنب آدم هكذا نحن من جنب المسيح ـ وهذا معنى الكلام من لحمه ومن عظامه. إن خروج حواء من جنب آدم هذا أمر نعرفه جميعاً وأكده الكتاب بوضوح، بأن أوقع الله ثبات على آدم وأخذ واحد من أضلاعه وبنى المرأة.
الكنيسة تكونت من جنب المسيح:
والكنيسة أيضاً تكونت من جنب المسيح، هذا الأمر يعرضه لنا الكتاب وذلك عندما رفُع المسيح على الصليب وسُمر ومات “لكن واحد من العسكر طعن جنبه بحربه وللوقت خرج دم وماء” (يو 19: 34) من هذا الدم والماء تكونت الكنيسة. ويشهد هو بذلك قائلاُ: “أجاب يسوع الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله.” (يو 3 : 5) الدم يقول عنه (الروح). حيث تولد بماء المعمودية وتتغذى بالدم (التناول).
أرأيت كيف أننا من لحمه ومن عظامه. فهل من هذا الدم والماء صار لنا الميلاد والغذاء؟ فبينما نام آدم تكونت المرأة، هكذا عندما مات المسيح تكونت الكنيسة من جنبه.
ليس هذا فقط يجب أن نحب زوجاتنا، أي ليس لأنها عضو من أعضائنا ومنا كانت بداية خلقتها، بل لأجل الوصية التي وضعها الله نفسه “لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بإمرأته ويكونان جسداً واحداً” (تك 2: 24). ومن أجل هذا فإن الرسول بولس قد قرأ علينا هذه الوصية، حتى أنه في كل الأحوال يدفعنا دفعاً نحو محبة الزوجة. وهذه حكمة رسولية.
فهو لا ينحصر في الوصايا الإلهية فقط ولا في الشرائع الإنسانية فقط، لكنه يأخذ من الاثنين لكي يحملنا على محبة الزوجة.
لهذا فهو يبدأ مما حققه المسيح ويعظ قائلا: “أحبوا نساءكم كما أحب المسيح الكنيسة”، وبعد ذلك يعود مرة أخرى للمسيح قائلاً: “نحن أعضاء جسده لحم كم لحمه وعظم من عظامه” ثم يكمل إنسانياً “من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته”. وحين يقرأ هذه الوصية يقول: “هذا السر عظيم”. كيف يكون عظيما؟
هذا السر عظيم:
فعندما تقضى الزوجة كل الوقت في حجرتها وترفض رؤية زوجها، فكيف تقبله كجسدها؟ وأيضاً الزوج الذي لا يرى زوجته ولا يحادثها ولا يأنس برفقتها، كيف يقبلها كجسده؟ يجب على الزوجة أن تتجاوز الكل، الأصدقاء والأقارب والوالدين أنفسهم.
أما فيما يخص الوالدين، فقد يقبلون لابنتهم شخصاُ لم يعرفوه من قبل ولم يرونه قط، لكنهم يفعلون هذا الأمر بفرح دون تفكير في ضرر قد يحدث. وقد يعيش معها بعيداً عنهما، على الرغم من أنهما قد تعودا عليها، إلاٌ أنهما لا يتذمران بل يقدمان الشكر لله ويتمنيان كل بركة لهذا الزواج. كل هذه الأمور قد فكر فيها الرسول بولس، حيث يترك الزوجان ذويهم ويرتبط الواحد بالآخر ويبدآن حياة جديدة تماماً. وهذا الأمر ليس أمراً إنسانياً، بل هو نوع من المحبة قد زرعه الله في كليهما. أن هؤلاء الذين يقدمون (أي الوالدين) وهؤلاء الذين يأخذون (أي الأبناء) قد خلقهم الله ليفعلوا هذا الأمر (أي الزواج) بفرح، ولهذا فإنه يقول: “هذا السر عظيم.”
هذا ما حدث بالضبط في حالة المسيح والكنيسة. ماذا حدث؟ فكما أن الرجل يترك أباه وأمه ويلتصق بامرأته، هكذا فإن المسيح ترك عرش أبيه وأتى إلى العروس “الكنيسة”. لم يدعونا إلى السماء، لكنه نزل هو إلى الأرض. وعندما نسمع ترك السماء، لا نظن أنه لم يعد في السماء ولكن ترك بمعنى التنازل. فبينما كان معنا كان مع أبيه أيضاً ولهذا قال إن هذا السر عظيم. عظيم أيضاً من الوجهة الإنسانية عندما نرى أن ما حدث في حالة المسيح والكنيسة يحدث في حالة الزواج، وهو أمر يثير الدهشة والإعجاب. ولهذا عندما قال أن هذا السر عظيم، أضاف لكننى أقول من نحو المسيح والكنيسة، حينئذ نستطيع أن ندرك كم هو عظيم سر الزيجة لأن النموذج الذي يتم على مثاله سر الزيجة هو عظيم.
لذلك لا تفكر في هذا الأمر بسطحية وتختار لك زوجة لديها أموالاً كثيرة. لأنه يجب التفكير في الزواج لا كتجارة بل كشركة حياة، لأنني أسمع من وقت لأخر أن فلان صار غنياً بزواجه ـ أي أخذ له زوجة غنية والآن هو يملك كل شيء.
ماذا تقول أيها الإنسان: أبمثل هذا الأساليب تحقق مكاسب؟ وهل هذا الحديث هو حديث رجولة؟
الأمر الوحيد الذي يجب أن تفكر فيه هو أن تختار لك زوجة قادرة على تدبير بيتها ورعايتة حسناً. لقد أعطى الله للزوجة رعاية البيت والعناية به، وللرجل الأمور العامة، أي كل ما يختص بالمحاكم، البرلمان، الجيش والإدارة الحكومية. فالمرأة لا تستطيع أن ترمى حربة أو تقدف نبالاً، لكنها يمكن أن تغزل بالآلة وتقوم بكل احتياجات بيتها، وهي لا تستطيع أن تقدم اقتراحاً في البرلمان، لكنها تستطيع أن تبدى رأيها في كل الأمور التي تخص بيتها، وهي في لها دراية أكثر بكثير من الزواج. لا تستطيع أن تدير حسناً الأمور الخاصة بالدولةّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ (لم يكن للمرأة في ذلك العصر القرن الرابع نصيب في المشاركة في الحياة العامة). لكنها تستطيع حسناً أن تربى أولادها، وهو عمل يُعد أفضل بكثير من كل المكاسب الأخرى، يمكنها مراقبة أعمال الخدم وتكاسلهم، وتهتم برعاية أسرتها، وتقدم كل وسائل الراحة لزوجها، وتريحه من كل هذه الأمور الخاصة بإدارة البيت، سواء كان غزل صوف، إعداد طعام، كي ملابس، ورعاية الأولاد، وكل الأمور الأخرى التي يعجز الرجل عن أن يباشرها، ولا هي بالأمر السهل عليه حتى وإن أراد أن يمارسها. هذا هو عمل الحكمة الإلهية ـ فالقادر على أن يفعل الأمور الهامة، يكون غير قادر على أن يقوم بالأمور الصغيرة حتى يكون للمرأة مكانة حقيقية ودور هام.
عمل الرجل وعمل المرأة:
فلو كان عمل الاثنين (الرجل والمرأة) يقوم به الرجل فقط وينجح في إنجازه وحده، لتعرض الجنس النسائي للازدراء. ومن ناحية أخرى لو أوكل العمل المهم والأكثر نفعاً للمرآة لجعلها هذا أن تنتفخ على رجلها. ولهذا فقد قسم العمل فيما بينهما. وذلك حتى لا تنتقص قيمة جنس عن الآخر، ويبدو كأنه بلا قيمة، ولا أيضاً ترك لأحدهما أن يقوم بالعمل وحده، حتى لا تحدث مشاحنات وطلب المساواة.
ولكي يتحقق السلام اللائق بينهما، حدد الله لكل واحد نظاماً يحافظ عليه، ووزع بينهما الأعمال لكي تستمر مسيرة الحياة. فقد أعطى الأمور الهامة للرجل والأقل أهمية للمرأة حتى لا تتعالى على الرجل. الأمر الأساسي الذي نطلبه ونبحث عنه في الزواج هو النفس الفاضلة والذهن النقي حتى يٍعُمنا السلام ونقضى كل أوقاتنا في هدوء ومحبة ووفاق دائم. لأن من يختار امرأة غنية فقد أخذ سيدة ولم يأخذ زوجة.
أما من يختار زوجة مكافئة له بل وأقل منه، فقد نال مساعداً ومعيناً له وأقتنى لبيته كل أمر حسن. فإن الإحتياج الناتج عن الفقر يحثها على التفكير كيف تخدم زوجها بعناية وتتنازل عن أمور كثيرة. هكذا تنقضي كل مسببات ودوافع المشاجرة، والمشاحنة، والشتائم ويكون هذا سبباً للسلام والوفاق والمحبة والتوافق والوئام، ومن أجل هذا يجب ألا يتجه الهدف نحو المال، بل نسعى نحو الحياة المملوءة سلاماً ومحبة حتى نتمتع بحياة هادئة ومفرحة.
شُرّع الزواج عوناً وعزاءً وميناءً:
الزواج شُرّع لا لكي يكون سبباً للمشاحنات والمشاجرات ولا لكي يتحدى الواحد الآخر، فتصير الحياة مستحيلة، لكنه شُرّع لكي يكون عونا وملجأ وميناء وعزاء في الأمور الصعبة التي تواجهنا في الحياة ويكون لنا شركة حقيقية وحوار جميل مع زوجاتنا.
فكم من الأغنياء اقتنوا لهم زوجات غنيات وازداد ثرواتهم، لكنهم فقدوا الفرح الحقيقي بمشاجرات وشاحنات يومية. وكم من أناس فقراء اقتنوا لهم زوجات أكثر فقراً، لكنهم تمتعوا بسلام وفرح حقيقي. وهكذا فإن الأموال لا تفيدنا في شيء عندما نفشل في أن نقتنى لنا نفساً مُحبة للصلاح.
لماذا نتكلم عن السلام والوفاق؟… لأنه إن كان على الزواج التزام أمام أقارب الزوجة أن يرد كل ما أخذه في حالة وفاتها، هكذا فإن الموت المفاجئ للزوجة يقضى على كل هدف للزوج، تماماً مثل تاجر جشع لا يشبع من طلب المال فيُحمّل مركبة فوق طاقته مما يُعرّضه للغرق فيخسر كل شيء.
التحذير من طلب المال:
كل هذه الأمور يجب أن نضعها في اعتبارنا، ولا ننظر إلى كيفية الحصول على مزيد من الأموال، بل وعلينا أن نفكر كيف سنحيا حياة هادئة، نقية ومملوءة سلاماً. فإن المرأة العاقلة المتواضعة حتى وأن كانت فقيرة تستطيع أن تحوّل فقرها إلى مسيرة حياة أفضل من الغنى.
أما المرأة غير المتعلقة والتي تتشاجر حتى مع ذاتها، حتى وأن كانت تمتلك كنوزاً كثيرة، فسوف تبذرها وتنفقها بسرعة أشد من سرعة الرياح.
هدف الزواج:
من أجل هذا ينبغي عليك ألاّ تسعى نحو الغنى بل أطلب المرأة التي تدبر بيتها حسناً. يجب أن نعرف ما هو الزواج ولأي غرض شرع لحياتنا ولا تطلب شيء آخر غير ذلك.
إذن، ما هو الزواج ولأي غرض منحنا الله إياه؟
اسمع ما هم هدف الزواج ولأي غرض منحنا الله إياه؟
اسمع ماذا يقول الرسول بولس: “ولكن لسبب الزنا ليكن لكل واحد امرأته” (1 كو 7 :2) ولم يقل من أجل التخلص من المتاعب ولكن لكي نتجنب الزنا ونطفئ الشهوة ونحيا بوداعة ونكون مرضيين أمام الله مكتفيين كل واحد بزوجته. وهذه هي عطية الزواج، هذا هو ثمره، وربحه. ولهذا شرع الزواج ليساعدنا على الهدوء والوادعة. يحدث هذا ولو وقع اختيارنا على زوجات قادرات على ملء حياتنا بالتقوى والوداعة والكرامة. لأن حمال الجسد عندما يكون غير مقترن بنفس فاضلة، سيستمر لمدة عشرين أو ثلاثين يوماً، لكنه سيتوقف بعد ذلك، بسبب ظهور المشاكل وتزايد المتاعب وستُمحى كل محبة من القلب.
جمال النفس والمحبة الحقيقية لبن الزوجين:
لكن أولئك اللواتي يُشرقن من خلال جمال أنفسهن، ومع مرور الزمن واكتساب الخبرة، يُقدّمن محبة أكثر دفئاً لأزواجهن.
وعندما يحدث هذا ويرتبط الزوجان بتلك المحبة الحقيقية، ينمحى كل فكر شائن، ويبقى الزوجان أمناء الواحد نحو الآخر في مناخ من المحبة والرقة والحنان، ويتمتعان برضا الله وحمايته. هكذا كان كل الرجال المشهورين، يتزوجون قديماً. هدفهم كان اقتناء النفس الفاضلة وليست الأموال الكثيرة. وسأذكركم على سبيل المثال بزواج مثل هذا. “وشاخ إبراهيم وتقدم في الأيام. وبارك الرب إبراهيم في كل شيء وقال أبراهيم لعبده كبير بيته المستولى على كل ما كان له. ضع يدك تحت فخذي فأستحلفك بالرب إله السماء وإله الأرض أن لا تأخذ زوجة لأبني من بنات الكنعانين الذين أنا ساكن بينهم بل إلى أرضي وإلى عشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لأبني أسحق.” (تك 24: 1 ـ 4).
أرأيت بر الفضيلة والأهمية التي كانت للزواج وقتها؟ لأنه لم يذهب إلى مُسنات يعرفن أساطير، بل دعا خادمه الخاص وكلفه بهذا الأمر. وهو ما يُظهر تقوى إبراهيم، فهو بهذا الشكل أعد خادمه لكي يكون أداة مستحقة لتعهد عمل مثل هذا. وهو ولم يطلب زوجة غنية أو جميلة ولكن زوجة فاضلة في كل طرقها. ومن أجل هذا أرسله إلى رحلة بعيدة. لاحظ طريقة تفكير الخادم المتفقة مع تفكير سيده، لأنه لم يقل ما هذا الكلام؟ كل هذه الأمم القريبة منا وكل هؤلاء البنات من بيوت غنية، معروفين ومشهورين، وأنت ترسلني إلى بلد بعيد وإلى أناسٍ مجهولين. مع من سأتكلم؟.. من سيتعرف عليًّ؟.. وماذا سيحدث لو أعدوا لي حيلة وخدعوني؟.. لا شيء من كل هذا طرأ على باله، لكنه أظهر خضوعه ولم يُعارض سيده وأظهر حكمة ورؤية ثاقبة متفقاً مع سيده المتفرد في قوله.
إذن من يكون هذا؟.. وماذا سأل سيده؟.. ” فقال له العبد ربما لا تشاء المرأة أن تتبعني إلى هذه الأرض. هل أرجع بابنك إلى الأرض التي خرجت منها. فقال له إبراهيم احترز من أن ترجع بابني إلى هناك. الرب إله السماء الذي أخذني من بيت أبي ومن أرض ميلادي والذي كلمني والذي أقسم لي قائلاً: لنسلك أعطى هذه الأرض هو يرسل ملاكه أمامك فتأخذ زوجة لابني من هناك” أرأيت إيمان مثل هذا؟ لم يترجى أصدقاء أو أقارب ولا أي أحد أخر، لكن الله أعطاه وسيطاً ورفيقاً للطريق. وبعد هذا أراد أن يشجع خادمه فقال: “الرب إله السماء والأرض الذي أخذني من بيت أبي” ولم يشر إلى طول الرحلة وإلى الغربة، أي كيف تذهب لبلد غريب وتترك بلدنا لكنه قال: “الذي أخذني من بيت أبي” سنده الوحيد هو الله. ونحن مدينون له. والله هو الذي قال: “لك ولنسلك أعطى هذه الأرض”.
حتى وإن كنا غير مستحقين، سيكون لنا عونا بسبب وعده، وسيجعل كل الأمور سهلة أمامنا وسيحقق لنا كل ما نتمناه. فعندما وصل الخادم إلى المدينة التي قصدها، لم يذهب لأحد من سكان المدينة ولم يتكلم مع الناس ولم ينادي نساء، لكنه كان أميناً للوصية التي أخذها من سيده وتمسك بها ووقف وصلى قائلاً: “أيها الرب إله سيدي إبراهيم يسر لي اليوم…” ولم يقل أيها الرب إلهي، لكن إله سيدي إبراهيم. تكلم مُقدَّما سيده. لقد وصل وتمم كل الأمور الموكلة إليه. ولا تعتقد أنه يصنع هذا كدين عليه. اسمع ماذا يقول؟: “وأصنع لطفاً إلى سيدي إبراهيم”.
لأننا لو استطعنا أن نحقق شيئاً، فهذا بسبب محبة الله للبشر، وليس بسبب التزام أو دين يمكن أن يؤدي بمعزل عن الله. ولذلك يقول: “ها أنا واقف على عين الماء وبنات أهل المدينة خارجات ليستقين ماء فليكن أن الفتاة التي أقول لها أميلي جرتك لأشرب فتقول اشرب وأنا أسقى جمالك أيضاً هي التي عينتها لعبدك أسحق وبها أعلم أنك صنعت لطفاً إلى سيدي” (تك 24: 13 ـ 14) أنظر إلى حكمة الخادم. أي علامة وضع. لم يقل إن رأيت إنسانة قادمة جالسة فوق حصان أو جالسة في عربة وخلفها خدام محملين بالذهب، ولديها كثير من الخدم، جميلة وجسدها ملئ بالشباب والحيوية، لكن ماذا قال؟.. فليكن أن الفتاة التي أقول لها أميلي جرتك لأشرب فتقول اشرب وأنا أسقي جمالك أيضاَ، هي التي عينتها لعبدك اسحق. ماذا تصنع أيها الإنسان؟ أتطلب امرأة فقيرة لأبن سيدك، فتاة تحمل جرة ويمكن أن تتحدث معك؟ نعم. لأنه لم يرسلني لأبحث عن أموال كثيرة ولا عن جنس معروف، ولكن عن نفس تحيا بالفضيلة. ويوجد كثيرات ممن يحملن جراراً ويعشن في الفضيلة، بينما هناك أخريات ممن يسكن في بيوت معروفة، غير متعقلات ويحيون في الرذيلة.
فضيلة الضيافة:
وكيف تبدو المرأة فاضلة؟… يقول من العلامة التي وضعها. وما هي علامة هذه الفضيلة؟… هي علامة الضيافة. لأن الضيافة هي سمة عظيمة للاختيار، لقد طلب فتاة مضيافة، حتى تستطيع أن تقدم خدمة لكل محتاج لها. ولم يطلب هذا الأمر مصادفة. بل أراد أن يأخذ امرأة لها نفس طريقة تفكير سيده، وأن تكون معينة داخل بيت مفتوح للغرباء. لأنه من قبل الضيافة ننال كل الخيرات. هكذا سلك سيده وقدم ذبائح ورُزق ابناً ونسله صار كنجوم السماء بحسب وعد الله. وطالما أننا نقتنى لأنفسنا ولبيوتنا كل الخيرات من قٍبل الضيافة، فقد طلب هذه العلامة على وجه التحديد.
وما يجب الالتفات إليه، ليس فقط موضوع طلب الماء، ولكن الفضيلة التي تزين نفسها. وهي لم تعط فقط ما طلُب منها، بل إنها قد أعطت أكثر مما طلب منها. وأنت أيضاً عندما تنوي على إختيار زوجة لك لا تلجأ للناس ولا لنساء يتاجرون بنكبات الآخرين، ويطلبون شيئاً واحداً فقط، كيف يُكافئون، لكن الجأ إلى الله، والله نفسه وعد “اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم.” (مت 6 : 33).
ولا تقل كيف يمكن أن أرى الله؟ هذا قول نفس غير مؤمنة. لأن الله يستطيع أن يحقق لك كل مل تريد دون أن تطلب.
وهذا هو ما تحقق في حالة هذا الخادم، لأنه لم يسمع صوت ولم ير رؤية. بل بينما هو واقف بجوار البئر، صلى وعلى الفور نجح في مسعاه “لأنه حدث إذ كان لم يفرغ بعد من الكلام إذا رفقة التي ولدت لبتوئيل إبن ملكه امرأة ناحور أخي إبراهيم خارجة وجرتها على كتفها وكانت الفتاة حسنة المنظر جداَ وعذراء لم يعرفها رجل فنزلت إلى العين وملأت جرتها وطلعت” (تك 24 :15 ـ 17) لكي تدرك كم هي عظيمة طريقة التفكير هذه، وأن جمال النفس له أهمية في الاختيار، لم يقل مصادفة مرتين أنها عذراء لأنه قال كانت عذراء ولم يعرفها رجل. لأن كثيرات من الفتيات يحفظن أجسادهن، بينما نفوسهن مليئة بالشرور، متزينات بأشياء كثيرة وعيون الشباب يلاحقهن، وهؤلاء الفتيات قد ينصبن شباكهن للإيقاع بالشباب. وينين موس النبي أن هذه المرأة كانت عذراء في الجسد والنفس فيقول: “عذراء لم يعرفها رجل” على الرغم من إنه توجد أسباب عدة لكي تعرف رجلا ـ وهي جمال الجسد، ثم طبيعتها المضيافة الخدومة. لأنها لو لم تخرج إلى السوق، لما كانت مستحقة لهذا المديح “لم يعرفها رجل”.
فعندما تراها وهي خارجة إلى السوق كل يوم وهي مضطرة أن تحمل الماء مرة ومرتين وأحياناً مرات كثيرة، وبعد كل هذا لم تعرف رجلا ـ وقتها ستدرك كم كانت مستحقة للمديح.
فلو ترددت فتاة على السوق عدة مرات حتى ولو لم تكن جميلة وليس ما فيها ما يجذب الانتباه، رغم غناها، يحدث أن يكون في هذا الخروج ما يفسد أخلاقها.
أما رفقة وهي تخرج كل يوم ليس فقط إلى السوق، ولكن أيضاً إلى البئر لتأخذ ماء، هناك حيث يجتمع كثيرون وكثيرات، فإنها بقيت عذراء النفس والجسد، فكيف لا تكون إذن مستحقة لكل تقدير وإعجاب وبالأكثر جداً أنها حفظت فكرها في نقاوة من اللواتي يجلسن في مجمع النساء، احتفظت في وسطهن بهذا النقاء.
كما قال الرسول بولس: “لكي تكون مقدسة جسداً وروحاً”. (1كو 7 : 34).
“فنزلت إلى العين وملأت جرتها وطلعت فركض العبد للقائها وقال اسقيني قليل ماء من جرتك فقالت اشرب يا سيدي وأسرعت وأنزلت جرتها على يدها وسقته ولما فرغت من سقيه قالت أستقى لجمالك أيضاً حتى تفرغ من الشرب فأسرعت وأفرغت جرتها في المسقاه وركضت أيضاً إلى البئر لتستقى فأستقت لكل جماله”. (تك 24: 16 ـ 20).
الضيافة والحكمة:
ضيافة هذه المرأة هي بالتأكيد ضيافة عظيمة لكنها أيضاً تتمتع بحكمة عظيمة. يمكننا أن نعرف هذين الأمرين جيداً (الضيافة ـ الحكمة)، مما قالته ومما فعلته. أرأيت كيف أن الحكمة لم تُفسد الضيافة والضيافة لم تُفسد الحكمة؟
لأنها لم تذهب هي أولاً نحو الخادم ولم تبدأ الحديث ومعه، وهذا يُعد نموذجاً للحكمة، لكن هو الذي ترجاها، حينئذَ لم ترفض طلبه وهذا علامة واضحة للضيافة ومحبة الناس.
أما لو سعت هي للتحدث معه دون أن يبدأ هو بالحديث معها فسوف يدل هذا على عدم الحياء. وأيضاً لو أن رجاء الخادم وطلبه قوبلا بالرفض لكان هذا علامة للفظاظة وقساوة القلب. لكن لم يحدث شيء من كل هذا. فهي لم ترفض الضيافة لأجل الحكمة، ولا لأجل الضيافة أضرت بالحكمة، لكنها قدمت كل هذا (الضيافة والحكمة) في صورتها الكاملة.
فالضيافة الكاملة كانت علامة واضحة، فقد أعطت كل تملكه، حتى وإن كان من قدمته هو ماء. فقد كان هذا ما تملكه وقتها. فمن يقدم الضيافة لا يعطي من غنى لكن يُقدم مما يملك. وهكذا فإن من قدم كأس ماء بارد مدحه الله وأيضاً المرأة التي قدمت الفلسين قدمت أكثر من الجميع لأنها قدمت كل ما تملك. ورفقة قدمت كل ما تملك إذ لم يكن لديها شيء آخر تقدمه.
ولم يرد تعبير أسرعت ـ وركضت مصادفة، فهي إشارة لسلامة النية التي بها تصرفت لا لأنه أجيرها ولا هي بدون إرادة صنعت هذا ولا هي مثقلة أو متضايقة. فمرات كثيرة يحدث أن يعبر إنسان حاملاً مشعلاً ونطلب منه أن ينتظر قليلاً لنستضئ وشخص آخر يحمل ماء ونطلب منه قليل لنشرب فلا هذا يستجيب ولا ذاك.
بينما رفقة لم تُنزل جرتها فقط ولكن سقته وسقت كل جماله، محتملة كل هذا الجهد وهذا التعب الجسدي وهي تقدم ضيفتها بكل ارتياح وحسن نية. وهي تفعل هذا مع إنسان لا تعرفه ولم تراه ولو مرة واحدة.
كما أن إبراهيم حماها لم يسأل أولئك الذين عبروا بيته من أنتم ومن أين أنتم وإلى أين تذهبون، هكذا أيضاً فعلت هذه المرأة.
فهي لم تسأله من أنت ومن أين أتيت ولأي سبب أتيت إلى هنا؟ لكنها قدمت ضيافة كاملة وربحت هذه الفضيلة. فكما أن هؤلاء الذين يتاجرون في أحجار كريمة، ويهدفون إلى الربح من المشيرين، لا يفحصون من هم ومن أين أتوا، هكذا فعلت هذه المرأة، فقد ربحت ثمر هذه الضيافة. عرفت أن الغريب كان خجولاً ولهذا كانت تحتاج للياقة كبيرة وحكمة بدون فضول.
فقد فعلت كما فعل حماها الذي اهتم بالعابرين وربح الكثير، ولهذا فقد أستضاف ملائكة في وقت ما. لكن لو أنه جلس ليستطع أمرهم لم يكن له أن يحصل على هذه المكافأة التي انتظرته. ولهذا فنحن نعُجب به لا لأنه استضاف ملائكة، ولكن لأنه استضافهم دون أن يعرف شيئاً عنهم. وهذا ما يستحق كل الإعجاب أنه اعتقد أنهم مسافرون ومع ذلك صنع معهم كل هذا المعروف. وهكذا أيضاً كانت هذه المرأة، لقد كانت رائعة في ضيافتها. لم تكن تعرف من يكون سيده، لكنها اعتقدت أنه غريب وعابر سبيل.
ولهذا فإن عظمة هذه المرأة، تظهر من خلال ضيافتها بطيب خاطر وبحكمة عظيمة لهذا الغريب الذي لم تعرفه من قبل، لأنها فعلت كل هذا لا بعدم حياء ولا هي مجبره على ذلك ولا متضايقة، لكنها تصرفت بكل عناية وحكمة. هذا هو ما أعلنه موسى بالضبط “والرجل يتفرس فيها صامتاً ليعلم أأنجح الرب طريقه أم لا” (تك 24 : 21 ) وما معنى تفرس فيها صامتاً؟
إنه لاحظ الملبس ـ طريقه المشي ـ النظرة ـ الكلام، كل هذه الأمور فحصها بعناية لكي يستطيع أن يفهم قيمة هذه النفس.
ولم يكتفي بهذا، لكنه أضاف اختباراً آخر. فعندما أعطته ليشرب لم يتوقف عند هذا الحد ولكنه سألها “بنت من أنت أخبريني. هل في بيت أبيك مكان لنبيت”ماذا فعلت إذن؟ بوداعة ونقاوة تّكلمت عن أبيها ولم تغضب قائلة من أنت وماذا تريد أن تعرف عن بيتي ـ لكن ماذا قالت؟ “أنا بنت بتوئيل أبن ملكه الذي ولدته لناحور وقالت له عندنا تبن وعلف كثير ومكان لتبيتوا أيضاً.”
وكما في موقف الماء الذي طلبه ليشرب أعطته أكثر مما طلب لأنها سقته وسقت جماله أيضاً، هكذا أيضاَ في هذا الموقف، فالخادم طلب مكاناَ للمبيت، لكنها وعدت بعلف وتبن للجمال وأمور أخرى كثيرة لكي تثمر هذه الضيافة مجازاة عظيمة.
كل هذه الأمور يجب أن لا نسمعها بشكل عابر وسطحي، بل أن نضعها أمامنا ونقارن أنفسنا معها لكي نعرف ما هي فضيلة هذه المرأة. لأنه يحدث مرات كثيرة أن نستضيف أصدقاء أو معارف لنا وعندما يمكثون عندنا يوم أو يومين نتذمر ونتضايق. أما رفقة فبكل الود قادت العبد إلى بيتها وهو غريب وغير معروف لديها، وليس هذا فقط، بل أنها وعدت برعاية جماله.
حكمة الخادم:
ولنلاحظ حكمة تفكير الخادم الذي بمجرد دخوله إلى البيت ووصوله ليأكل قال: لا أكل حتى أتكلم وبماذا كلمهم عندما أعطوه الإذن؟ هل قال لهم أن سيدي له شهره واسعة ولقب عظيم وأنه مُكرم من الجميع وله وضع كبير بين أبناء وطنه؟ لم يقل شيء كم كل هذا، على الرغم من أنه لو أراد أن يقول مثل هذا الكلام لكان هذا سهلاً عليه. لكنه ترك كل هذه الأمور البشرية جانباً وتنين بالموقف السمائي قائلاً: أنا عبد إبراهيم. والرب قد بارك مولاي جداً فصار عظيماً وأعطاه غنماً وبقراً وذهباً وعبيداً وإماءً وجمالاً وحميراً، وهو قد ذكر الغٍنّى لا لكي يُظهر أنه متيسر ولكن لُيظهر أنه محب لله. فقد أراد بهذا أن يمدحه لأن كل ما عنده هو بسبب رضا الله عليه. ثم تكلم بعد ذلك من جهة “العريس” فقال: “وولدت سارة امرأة سيدي أبناً لسيدي بعدما شاخت”.
وطريقة الميلاد هنا هي أيضاً لها معنى. لكي يظهر أن الميلاد تم بسبب عناية الله بإبراهيم وانه لم يتم كأمر طبيعي.
المحبة الإلهية قبل كل شيء:
إذن فأنت أيضاً سواء كنت عروس أم عريس يجب أن تبحث عن محبة الله ورضا السماء قبل كل شيء. لأنه لو وُجدت هذه المحبة الإلهية وهذا الرضا السمائي فكل الأمور الأخرى ستنمو وتزداد، أما إذا لم توجد تلك المحبة وهذا الرضا السمائي فلن يخرج الإنسان بأي ربح، حتى وإن توافرت وسائل الراحة في هذه الحياة. ولكن لا يسألوا لأي سبب لم يأخذ زوجة من أبناء وطنه، أجاب لقد أقسم لي قائلاً : “واستحلفني سيدي قائلاً لا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانين الذين أنا ساكن في أرضهم بل إلى بيت أبي تذهب وإلى عشيرتي وتأخذ زوجة لابني” (تك 24 : 37).
خلاصة الأمر بعدما أوضح كيف أنه وقف إلى جوار البئر وكيف ترجى الفتاة ليشرب وكيف أنها أعطته أكثر مما طلب وكيف صار الله وسيطاً ـ أنهى حديثه قائلاً أن أهل الفتاة سمعوا كل هذه الأمور ولم يدخلهم أي شك ولم يتهاونوا كما لو كانت قلوبهم عند الله. وبعدها وعدوه أن يأخذ الفتاة وأجاب لابان وبتوئيل “من الرب خرج الأمر لا نقدر أن نكلمك بشر أو خير هو ذا رفقة قدامك خذها وأذهب. فلتكن زوجة لإبن سيدك كما تكلم الرب”.
كيف لا يندهش الإنسان إذن؟..
لأن عوائق كثيرة قد أُزيلت في لحظات قليلة.
فقد كان غريباً وغير معروف ومسافة الطريق كانت بعيدة جداً. وأيضاً لا “العريس” ولا “أبوه” ولا أي أحد من الأقارب كان ومعروفاً.
أمر واحد فقط من هذه الأمور كان كافياً أن يمثل عائقاً لإتمام هذا الزواج. لكن لا شيء قد أعاق هذا الزواج وكل الأمور سارت على ما يرام، كما لو كان إنساناً معروفاً لديهم أو جاراً لهم معه معاشرة. بكل هذه الثقة سلموه “العروس”. والسبب أن الله كان في الوسط.
بدون حضور الله سوف تفشل:
وهكذا فعندما نفعل شيئاً بدون حضور الله ، فسوف نفشل ونُصاب بأحباطات كثيرة، حتى لو كان هذا الشيء سهلاً وبسيطاً. لكن حضور الله واحتضانه لنا يجعل كل الأمور سهلة وبسيطة حتى وإن كانت غير ممهدة بالمرة.
كيف تسلَّم “العروس” وكيف سار موكب الزواج؟ هل يا ترى بالبوق والموسيقى والرقص والطبل والنادي؟ لم يحدث شيء من هذا، فقد أخذها ورحل وكان ملاك الله معه يقوده ويرافقه في الطريق، حيث أن سيده كان قد تضرع إلى الله ليرسل ملاكه معه عندما خرج من البيت. أخذ “العروس” دون أن تسمع آذانها صوت ناى أو قيثارة أو شيء من هذا القبيل، لكن كانت كل الأمور مباركة من قبل الله. وذهبت لا بملابس مُذهبة بل كانت لابسة للحكمة والتقوى والضيافة وكل الفضائل الأخرى.
زينة الفضيلة:
لم تذهب فوق عربة مغلقة، لكن فوق جمل. وكانت مزينة بالفضيلة. فتربية الأمهات لأولئك العذارى، لم تكن مثل تربية بنات اليوم اللواتي اعتدن على حمامات مستمرة ودهون وروائح. مع أنه كان يجب أن تكون تربيتهن أكثر صلابة واحتمالاً.
الجمال الحقيقي والقوة والنقاوة:
ولهذا فإن حيوية أولئك العذارى قد أزهرت بقوة ونقاوة لأن جمالهن كان طبيعياً ولم يكن مصطنعاً أو كاذباً. ولهذا تمتعن بصحة قوية وحرية وكن مستحقات للمحبة من قبل أزواجهن. فاحتمال المشقات لم يجعل أجسادهن فقط قوة، بل أنفسهن أيضاً صارت أكثر حكمة. وعندما وصلت رفقة إلى البلدة بعد هذه الرحلة الطويلة، رفعت عينيها ورأت أسحق وقفزت إلى أسفل من على الجمل. أرأيت القوه؟ أرأيت الصحة الجيدة؟ لأنها قفزت إلى أسفل من على الجمل. وكانت قد سألت العبد “من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا فقال العبد هو سيدي فأخذت البرقع وتغطت” لاحظ أنها في كل مكان تُظهر حكمة.
كيف كانت خجولة ووقورة؟ “وأدخلها أسحق إلى خباء سارة أمه وأخذ رفقة فصارت زوجة وأحبها فتعزى أسحق بعد موت أمه.”وهو لم يحوز هذه المحبة وهذه التعزية بالمصادفة بعد موت سارة أمه، لكن بسبب رقة رفقة ومحبتها، وهي أساسيات تربت عليها في بيت أبيها. ومن منا لا يُقدّر ويُبجٌل مثل هذه المرأة العاقلة جداّ والوقور جداً، المضيافة والمحبة للناس ذات القلب الطيب الرقيق.
اسمعوا الكلام لتحيوا به:
قد قلت لكم كل هذه الأمور كلها، لا لكي تسمعوها فقط، ولا لكي تسمعوها لتمدحوها، بل أيضاً لتدركوها وتحيوا بها.
كل من يريد الزواج، فليقتن هذه البصيرة التي أظهرها إبراهيم، لكي يأخذ امرأة غير متُكلفة، دون النظر إلى أموال أو نسب معروف أو جمال جسدي أو أي شيء أخر، بل ينظر فقط إلى فضيلة نفسها. وكل رجل ينوي أن يتخذ له زوجة فلينظر إلى حكمتها ووقارها. أما الرقص، والضحكات، والكلام البذئ، فلنتجنبه. ترّجوا الله دوماً أن يصير وسيطاً في كل ما تفعلوه. فلو سارت أمورنا هكذا، فلن يكون هناك طلاق أو شك في زنا أو مشاحنات أو مشاجرات، بل سنتمتع بسلام عميق ووفاق عظيم. أما إذا تحدث المرأة رجلها فلن يبقى شيء على استقامته في البيت حتى وإن كانت كل الأمور الأخرى مريحة وناعمة.
لكن عندما تكون الزوجة هادئة ومملوءة سلاماً سيكون كل شيء مريحاً حتى ولو كانت هناك أثقال ومتاعب يومية.
مثل أولئك الزوجات يستطعن أن يقدن أولادهن بسهولة إلى الفضيلة وعندما تكون الأم زوجة وقورة وعاقلة ومُزينة بكل فضيلة، فإنها تستطيع وبكل تأكيد أن تأسر زوجها بمحبتها. وعندما تأسره سيكون مستعداً أن يصير لها معيناً في مساعدة الأبناء، والله سيعتني بهم ويرعاهم. أما الأب فعندما يساهم في هذا العمل الجليل ويدرب أولاده على الفضيلة سينمو البيت كله، لأنه هكذا يجب أن يسلك القائمون على رعاية البيت. وهكذا فإن كل أحد يستطيع مع زوجته وأبنائه وخدامه أن يقضى كل حياته في هدوء وسلام. ويا ليتنا كلنا نكون مستحقين لملكوت الله بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي له المجد والقوة مع الأب والروح القدس المحيى الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور أمين.