الرسالة الرابعة – إلى أحد الأخوة المتوحّدين
1) لقبك[1] يا أخي أرفع من نسبك، وليكن تدبيرك مشابهًا لتدبير أولئك الذين لقبت بهم، وليكن جسدك مُشرقا بالنقاوة، كما يتلألأ أولئك بطهارتهم، ولتكن نفسك نقية من الخواطر الشهوانية. وكما أن أولئك هم نارة متقدة لنظرهم الشاخص دومًا إلى الله، هكذا ليكن نظرك إليه دومًا، تصحبه تسبحة قلبك التي لا تنقطع لتتخذ نفسك مثلهم.
2) أكره نفسك على القليل من الطعام، وعلى عدم معاشرة الناس قطعًا، ولا سيما الذين ليس مجتهدين، لكي تنطفئ فيك الشهوة المَرذولة. وهذه هي الحطبات التي يغذي عدونا بها النار التي تحرق بنفاق: معاشرة العلمانيين، والكلام مع النساء، وود الصبيان إن كانوا أبناء العالم أو أبناء المسلك الرهباني. وهذا الشر هو أعظم الشرور قاطبة لخادم المسيح، مع ما يماثله في الانحراف، اعني مصادقة بنات العهد. أما أم سليلة الثعابين هذه، فهي الشراهة وكذلك مرافقة الإخوة المبتعدين في حياتهم عن ممارسة الزهد. وعندما تتعرى نفوسنا من هذه كلها، لن تقع من بعد في مصايد العدو. وتستطيع، آنذاك، أن تطير برشاقة نحو الله، وفي تجد الخلاص[2]. وينسى الجسد نفسه هذه الرغبة النجسة عندما يُمنع من هذه كلها. وإن تحركت به بحسب الطبيعة، فهي تخمد بلا تعب.
3) أطلب منك، يا أخي، أن تتقيد بتحذيرات حبيبك هذه. فمسلكنا غير عرضي إذ هو شبيه بمسلك ساهري الأعالي[3]. فالنوم المتواتر يُعتم الذهن فلا يعود يفقه هذه الأشياء. أما السهر، فيجعل منه شريك السرافيم، ويجعله غريبًا عن مخالطة الناس، فتبقى الرغبة في الله متوقدة فيه بتواصل.
4) ما دامت الأهواء في النفس، أيها الأخ، يكون الإنسان لنفسه، أينما كان، مدينة ذات سجس شعب كثير. ويطلق عليها داود اسم {المدينة}[4]. أما الالتجاء إلى البرية[5]، لينجو منها، فيعني الانعتاق من الشهوات. ومتى يفترق المرء عن الأهواء كما عن {المدينة}، يجد قرب الله الدالة التي تجعله يقول: “من هو رجائي إلا أنت يا رب!”[6] ومتى يراه الصالح وقد اعتزل عن كل شيء، يُسمعه الصوت المفرح والمُشجع: “تقوّ! لن أتركك، ولن أتخلى عنك أبدًا! وإلى أي موضع تمضي، أكون معك”. ومتى يسمع الذي كان جالسًا في المناحة تلك الكلمات، يصرخ هاتفا كالطفل، مثل الولد الصغير الذي يشعر بقرب والده: “أبّا! أبّا! أبّا!”[7]، وهذا فقط ما يجده في ذلك الوقت.
5) وحينذاك، تقيمه النقاوة[8] في الانذهال، وتحرك النعمة فيه، بتواصل، خواطر لا توصف. وأقول باختصار إنها خواطر العالم الجديد، إنها أسرار وتجليات وإداركات للجواهر، ليس لنا أن نكشفها. لم يعد يذكر أن وجوده هو في العالم، ولا الميلاد الجسداني، ولا الرفقة البشرية. فمحبة خالقه، أب الكل، وهبته نسيان كل شيء بتبدل حركاته. فالمحبون اتحدوا بالمحبين: كما التشابه مع ملائكة النور ومخالطتهم هما جليلان ولا وصف لهما! آه ما أعجب المحبة التي يظهرونها نحو الذي اختلط اختلاطا كهذا، واعترف بهم أبناء من أمته.
6) احترق القلم من شدة نارك، يا يسوع! وقفت يميني عن الكتابة، وترمدت عيناي بأشعة حُسنك. ورحلت من أمامي الأرض التي كنت أمشي عليها. واندهش عقلي من العجب الذي تثيره. وأنا الآن أعرف الأنا كلا موجودة. تأجج لهيب في عظامي، وانبجست ينابيع لتروي جسمي كله لئلا يحترق. آه للكور المطهر الذي يجلي فيه الصانع جبلته! آه لمعطف النور الذي نزع عنا مشيئتنا لنرتديه الآن في داخل النار! إيذن لي سيدي بأن أعطي لبنيك ما هو قدوس. لا أعطيه للكلاب، بل أرفع الجواهر التي أخرجها من حضنك، البحر المجيد، إلى محبيك. إني لا أطرحها فتدوسها أرجل الخنازير[9].
7) المجد لك! كم هي عجيبة أسرارك! طوبى لمُحبيك الذين يضيئون دومًا من حُسنك وتقدم ذاتك هبة لهم. فهذه هي القيامة الأولى[10] التي في المسيح، والتي تكلم عنها الطوباوي بولس[11]. طوباكم أيها المتوحدون، إذ صرتم مع الابن الوحيد[12] ابنا واحدًا لله باتحادكم به. ولأجل هذا، تكشف لكم أسرار الآب، وبدالة تهتفون: “إن معرفة المسيح هي معرفتنا”[13]. لقد أشرقت في قلوبنا فاستنارت هذه بمجد الله[14]. الويل لي! إني بمشيئتي حرمت نفسي تلك الأشياء وأعددت لي، من ههنا، ميراثا من الظلمة.
8) إلهي! إنزع عني، بنعمتك، ثوب الأهواء، الجحيم المُظلم، وألبسني رداء نورك القدوس الذي هو العالم الجديد بنفسه، قبل أن أخرج من الجسد. أعطني ربي حسن منظرك مأكلا، وتجليات أسرارك المخفية في حضن جوهرك مشربًا مُفرحا. إجعلني سيدي عُضوًا في جسد وحيدك، فأشعر بسر اتحاده بك بقدر ما يستطيع طبعي الضعيف.
9) أجتهد، يا أخي، في أن تطلب محبة ربك ليلا نهارًا، وقل هذا: “أيها الآب الصالح، أعطني محبتك رغم أني غير أهل لها”. فبها يُباد حب الشهوات من النفس، وهي التي تهلك الأعداء، وتوفر المواهب التي تأتي من حضن الآب. وهي والدة الأسرار الجديدة للعالم الجديد، أعني أن المسيح يُشرق فيك بواسطتها، وأن وجه نفسك يتلألأ فيه، وقد جعلك منذ أمد مسكنا له مع أبيه وروحه القدوس[15]. وبمقدور الرغبة في المسيح، يا أخي، أن تستأصل بقوة شهوة العالم وذكرياته من النفس فترتبط بالله وحده. فله المجد من جميع محبيه وليفرحنا بمحبته. آمين.
[1] اللقب يشير إلى المرسل إليه وهو ناسك. أما التدبير فهو خاصة الممارسة الزهدية.
[2] راجع مز 124: 7
[3] الساهرون هم الملائكة (راجع دانيال 4: 14).
[4] راجع 2 مل 5: 9
[5] راجع 2 مل 15: 23
[6] راجع مز 39: 8
[7] راجع روم 8: 15
[8] الأصل السرياني هو “شفيوتو” وهو يدل في معناه المباشر على شكل من أشكال النقاوة، أو على التحرر من العوائق والعيوب.
[9] راجع متى 7: 6 – أما الترجمة العربية القديمة فتتابع: “ومثل خنزير أطرحهم أنا”.
[10] راجع أف 2: 6
[11] راجع كول 2: 12
[12] راجع 1 تس 4: 16
[13] راجع كور 2: 16
[14] راجع 2 كور 4: 6
[15] راجع يوحنا 24: 23