مار ثيودورس أسقف المصيصة
ترجمة: الأب د. بولس الفغالي
المعمودية ولادة جديدة
حينئذ تنزل إلى المياه المقدسة ببركة الكاهن. لأنك لست تعتمد في مياه عادية، بل في مياه الميلاد الجديد، التي لا تستطيع أن تصير هكذا إلا بمجيء الروح القدس. فيجب على الكاهن أن يسبق فيستعمل كلمات معينة، حسب ناموس الخدمة الكهنوتية. فيسأل اللـه أن تأتي نعمة الروح القدس على المياه. وتجعلها قادرة أن تلد تلك الولادة المذهلة. وتكون حشا للميلاد السري. لأن ربنا حين سأله نيقوديمس: هل يقدر الإنسان أن يدخل حشا أمه ثانية ويوُلد؟ أجابه: “إن لم يُولد الإنسان من الماء والروح، فلا يقدر أن يدخل ملكوت اللـه” (يو 3: 5).
هكذا في المعمودية. تصبح المياه حشا للذي يُولد. لأن نعمة الروح القدس تجبل المعتمد لميلاد ثان. وتجعل منه شخصًا آخر… فعندما يعتمد وينال النعمة الإلهية الروحانية، يتحول كليًا إلى شخص آخر: من طبع مائت إلى غير مائت، من فاسد إلى عديم الفساد. من مُتبدل إلى ثابت. فيُصبح كله إنسانا آخر، بحسب سُلطان من يجبله هكذا.
فليس طبع الماء، بل عمل الروح، يُعطي النعمة في معمودية الماء. يبدأ الكاهن، حسب ناموس الكهنوت، ويصلي كلمات معينة وبركات، سائلا أن تحل على المياه نعمة الروح القدس. وتهيئها بهذا الحلول المقدس المهيب. لتصبح كاملة تتم هذا كله. حشا مُذهلا لميلاد جديد. فكل من ينزل فيه. تجبله نعمة القدس جبلة جديدة، فيولد ثانية في طبيعة بشرية أخرى سامية. فإذا ما اكتملت المياه بمجيء الروح القدس، ونالت قوة كهذه، حينئذ تنزل أنت فيها، وتنتظر أن تنال منها الحياة.
المسيح بالعماد رأسنا
“أما نحن فسيرتنا في السموات التي منها ننتظر المخلص الرب يسوع المسيح، الذي سيُغير جسد تواضعنا ليكون على صورة مجده (فل 3: 20-21). هذا ما سيحدث فعلا في القيامة. أما نحن في العماد، فنكمل رموزه وآياته. لذلك ندعى جسد ربنا المسيح، حسب قول الطوباوي بولس، ورأسنا المسيح ربنا، “لأن المسيح هو الرأس الذي به كل الجسد يتعاون ويتلاءم بالمفاصل والمواصل فينمو نموًا من اللـه” (كو 2: 19). لأن ربنا المسيح، هو أيضًا، قبل القيامة من بين الأموات، شاهده يوحنا المعمدان في نهر الأردن يقبل المعمودية، ليسبق فيُمثل بها المعمودية التي كنا سنقبلها بنعمته.
وبما أنه كان البكر من بين الأموات، على حسب قول الطوباوي بولس: لكي يكون هو الأول في كل شيء، فإنه لم يشأ أن يكون الأول في القيامة فحسب، بل في الرمز أيضًا. لذلك رضي أيضًا أن يعتمد من يوحنا، فتقدم ورسم مثال نعمة المعمودية، التي كنت أنت مزمعًا أن تقبلها، ليصبح أيضًا رأسًا لك في معموديتك.
قال الطوباوي يوحنا المعمدان للمسيح: أنا المحتاج أن أعتمد منك. وأنت تأتي إلي؟ ليُظهر أن الفرق شاسع بينه وبين المسيح. أما يسوع فأجابه: “دع الآن، فهكذا ينبغي لنا أن نتم كل برّ” (متى 3: 14-15). هذا يعني أن البر هو من النعمة في المعمودية. وعلى يديك ينبغي أن يدخل البر إلى الناموس، ليظهر الناموس أيضًا مكرمًا، وقد دخل إليه البر بواسطة المسيح.
لقد اعتمد بمعموديتنا
ربنا نفسه اعتمد من يوحنا، لكنه لم يعتمد بمعمودية يوحنا التي كانت للتوبة ولمغفرة الخطايا. لم يكن بحاجة إليها، لأنه كان حُرًا تمامًا من الخطيئة. لقد اعتمد بمعموديتنا نحن، فسبق وصور لنا مثالها. وقبل الروح القدس الذي ظهر نازلا في شبه حمامة واستقر عليه. كما قال الأنجيلي. أما يوحنا فلم يكن يستطيع أن يعطي الروح. وهو نفسه قال: “أنا أعمدكم بالروح القدس والنار” (متى 3: 11). أظهر يوحنا جليًا أن ليس له أن يُعطي الروح. لأنه لم ينل سوى التعميد بالماء، بمعمودية التوبة لغفران الخطايا. أما ربنا فيعطي الروح. لقد أعطانا الآن باكورة الروح في المعمودية، على رجاء الخيرات الآتية، ووعدنا أن يُعطينا إياه كله في القيامة، إذ يقبل طبعنا ملء التحويل الحقيقي الموعود للفضيلة.
إذن، يجب أن تعرف أنك اعتمدت بتلك المعمودية التي اعتمد بها في الجسد ربنا المسيح. لذلك تعتمد باسم الآب والابن والروح القدس، لأن هذا العماد سبق فرسم في الواقع بالرموز على هذا النحو: الآب نادى من عالٍ وقال: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت” (متى 3: 7).
فأشار بوضوح إلى نعمة التبني التي من أجلها يتم العماد. فقوله: هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت، أشبه بالقول: هذا هو التبني الحق. هذا هو الحبيب الذي حسن لي. هذا هو الابن. هذا هو الذي أخذ ذخيرة البنين. وهذا العماد أفضل جدًا من العماد اليهودي. لأن هذا خاضع للتغيير. أما أنا فقلت إنكم آلهة. وبنو العلي كلكم. ولكنكم تموتون كونكم بشرًا. أما العماد، فيثبت حقا لا يتزعزع: من ياخذ ذخيرة البنين هذه يثبت غير مائت. وبمثل هذه الرموز، يتحول إلى ذخيرة البنين التي تتم في القيامة، ومنها يتحول إلى طبيعة غير قابلة الموت والفساد.
ولكن الابن بعماده وقربه إلى الطبع الذي منه أخذ وبعلاقته به، يُثبت حقيقة التبني. والروح القدس أيضًا قد نزل في شبه حمامة واستقر عليه. فالمسيح إذن قد اعتمد هو أيضًا باسم الآب والابن والروح القدس.
التبني بالمعمودية
متى قال الكاهن: “باسم الآب”، تذكر قول الآب: هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت، وافهم به ذخيرة التبني المعطاة لك. ومتى قال: “والابن”، فافهم به من كان قريبًا منك لأنه اعتمد. واعرف أنه استحق لك ذخيرة البنين. ومتى قال: “والروح القدس”، فاذكر من نزل في شبه حمامة، واستقر عليه، وانتظر أنت أيضًا إثبات ذخيرة البنين. “لأن الذين يُقتادون بروح اللـه هم أبناء اللـه” (روم 8: 14)، حسب قول الطوباوي بولس. إن ذخيرة البنين الحقيقية هي هي يُعطيها الروح القدس. ولا تكون حقيقية إن لم يكن الروح حاضرًا، يعمل ويحث على موهبة الإيمان.
إذن، بدعوة الآب والابن والروح القدس، تتشح بنعمة التبني، وتخرج من مياه المعمودية، وقد نلت ولادة جديدة، وأتممت بعمادك في المياه شريعة الدفن وقبلت بخروجك منها علامة القيامة، واتلدت وتحولت إلى شخص آخر. لم تعد مُذاك خاصة آدم المتبدل والرازح الشقيّ تحت الخطيئة، بل خاصة المسيح الذي أصبح بالقيامة غير خاضع للخطيئة، وهو منذ البدء لم يقترف خطيئة. لأن الخطيئة كانت تهدده في البدء، لكنه بالقيامة حصل على طبيعة غير مُتبدلة. فأثبت لنا القيامة من بين الأموات والشركة في عدم الفساد.