القديس مار أفرام السرياني
في أحد الأيام نهضت في دجى الليل وذهبت وكان معي اثنان من الإخوة إلى مدينة الرها رفعت عيني إلى السماء فعاينتها مثل مرآة صافية صقلها تتلألأ مع الكواكب اللامعة. تعجبت كثيرًا وقلت إن تكن هذه البرايا تلمع هكذا بمجد عظيم، فالصديقون والقديسون الذين يتبعون مشيئة الإله القدوس كم أولى بهم أن يشرقوا في تلك الساعة بنور مجد المخلص. وللحين تذكرت مجيء السيد المرهوب فاضطرمت عظامي، وانقطعت عني قوتي، وبكيت بوجع قلب، وقلت بزفرات كيف أوجد أنا الخاطيء في تلك الساعة الرهيبة، وكيف سأمثل أمام المجلس الرهيب.
كيف أوجد أنا المتتره مع الكاملين، كيف أقف أنا الجدي مع الخراف؟
كيف أوجد أنا غير المثمر مع القديسين ثمار العدل؟
القديسون يعرفون بعضهم في المواكب السمائية فماذا أصنع وترى من يعرفني إذ الصديقون في الخدر السمائي والمنافقون في النار.
الشهداء يرون تعاذيبهم، والنساك فضائلهم، فماذا أرى أنا سوى رخاوتي وتهاوني!
أيتها النفس الخاطئة والكارهة حياتها دائمًا… إلى متى تجذبك الهموم على الأرض وسوء الأفكار؟ أما علمت أن الأفكار الخبيثة التي لك تصير كسحابة مظلمة قدامك تحجزك عن الوقوف أمام الله وفيما تتوقعين تباطؤ مجيئه فإنه يجيء عليك كالبرق المفزع.
احرصي يا نفسي تلك الساعة المخيفة لئلا تبكي هناك إلى أبد الدهر.
لا تصغ بتاتًا إلى هفوات الآخرين وانتحبي على زلاتك، لا تبصري قط القذى الذي في عين الأخ والقريب بل تأملي الخشبة
التي في عينك تأملا متواترًا، فانزعي أولا الخشبة من عينيك… وإن لم يمكنك فنوحي على عمى بصيرتك، وكيف تظنين أنك تمنحين القريب نورًا.
صيري يا نفسي طبيبًا لذاتك كل ساعة ثم بعد ذلك تستطيعين شفاء أخيك السقيم.
ليس لك عذر على توانيك لأن الإله الرحوم قد أعطاك المواهب تمييزًا وفهمًا معرفة روحانية فاعرفي من الآن ما يوافقك. لقد رآني الأخوان أبكي فقالا لماذا تبكي يا أبانا هكذا بكثرة؟ فقلت لهما يا ولديَّ المحبوبين من أجل خطاياي أنوح على ذاتي لأن الإله الصالح أعطانا استنارة العلم وأنا أخالف يومًا فيومًا. فمن يكمل مشيئة الرب سيكون مغبوطًا في تلك الساعة بل وكل الذين يعملون مسرته.
من أجل هذا يا إخوتي ليس لنا هنا معذرة لأننا بمعرفة نخطيء فلنتأمل كلنا تدبير الله وكافة المواهب التي أعطانا ونعمته التي دائمًا تتعهد قلوبنا فإن وجدت راحة لها تدخل وتسكن النفس كل حين سرمدًا، وإن لم تجده نقيًا نظيفًا تبتعد عنه للحين ثم لرأفته يتعهدنا نحن الخاطئين الذين ذهننا متقلبًا بل ومسترخين الجسد، مفتكرين خطايا البعض بأفكار رديئة فنوجد دائمًا كطريحين في حمأة نتنة من الأفكار… فإذا جاءت النعمة تفتقدنا تجد نتانة تلك الأفكار في قلوبنا فتتنحى وتبتعد إذ لا تجد مدخلا لتسكن فينا ومع هذا لا يمكنها أن تبتعد عنا بالجملة لأن تحننها يضطرها أن ترحم الكل. أرأيت كيف يحبنا الإله القدوس دائمًا مريدًا خلاصنا؟ فمغبوط ذلك الإنسان الذي يحرص في كل وقت أن يكون قلبه نظيفًا للنعمة لكي تجد طيب نسيم الفضائل وطهارة النفس فتسكن فيه إلى أبد الدهر.
ماذا نقدم للإله المتحنن على كافة خيراته ومواهبه إذ نزل من السموات من حضن الآب ومن أجلنا متجسدًا من البتول، وأنه
من أجلنا لطم مثل عبد. فعن اللطمة وحدها ماذا نقضيه. إن عشنا نحن على الأرض ألف سنة ما نستطيع أن نقضي لله ما هو
واجب عن نعمته. أنا من هذا أخشى يا ولديَّ المحبوبين.
أصغي إلى ذاتك أيتها النفس المؤثرة لئلا تعبر أيامك في التتره، لا تقبلي الأفكار الخبيثة لئلا تضعف قوتك في حرب العدو. ليكن في ذهنك دائمًا فكر السيد الحلو ليكلل سعي نسكك. حاضري جهاد نسكك فقد حان الوقت الذي يكلل فيه المجاهدون أما المتوانيين فيندمون. اقتن الفضيلة مادام يوجد لك زمان، صدقًا في سمعك، كلماتك حياة في لسانك… وفي قلبك دائمًا صورة الرب، في أعضائك تقويم العفة.
الخشبة تكرم إذا كان فيها صورة ملك مائت فكم بالأكثر تكرم النفس الحاوية الله في هذا الدهر وفي الآتي.
أصغ أيها الحبيب فالشهوة مائتة أما جسدك فهو حي. فاحذر أن تمنح جسدك الحي ذلك الموت لئلا يقتلك. أحضر إلى ذهنك النار التي لا تطفأ والدود الذي لا يموت ففي الحال تخمد التهاب شهواتك لئلا تنغلب وتندم. اقتني صرامة من البداية مقابل كل شهوة ولا تعتاد التراخي فتكون كل حين حزينًا كئيبًا فترى قدام الناظرين بورع لكن من داخل في توبيخ من ضميرك إذ قد ألفتك الشهوة. تحرز من كل نفسك كل وقت ألا تكون خاليًا من المسيح لأن المسيح هو للنفس ختن لا يموت. لا تترك ختنك الحقيقي لئلا يتركك أنت وإذا تركك ستحب الغريب الذي هو الغاش العدو، وإذا أفنى الإنسان نعمته يوجد ممقوتًا منها… من لا يبكي إذ العدو قد أفنى قوتنا وزماننا في نجاساته وشهواته الدنسة ولا يحبنا قط أما الله فإنه يحبنا دائمًا.
يا إخوتي لقد قال الكتاب “اعترفوا بعضكم لبعض بالزلات وصلوا بعضكم لأجل بعض لكي تشفوا” فبتوسلاتكم عني
أنجو من الخطايا المصطبغ بها وأصير معافى، وأنهض من سرير الخطايا المفسدة الذي لي منذ طفوليتي، والآن أسمع عن الدينونة وأتهاون بخطاياي وجرائمي الكثيرة.
أعظ كثيرين أن يبتعدوا عن الأشياء التي لا تنفع وأنا تكمل فى مضاعفة. ويلي أي خزي لي، ويلي أن باطني ليس كظاهري، ويلي فإن لم تشرق عليّ رأفات الله سريعًا فليس لي بأعمالي رجاء واحد للخلاص.
أتكلم عن الطهارة وأعيش في الدنس، أقول عن عدم الألم وأعيش في النجاسة ليلا ونهارًا. فأي عذر لي؟
ويلي أي عذاب قد أعد لي… فأتقدم إلى الرب الإله العارف مكتومات قلبي أنا المديون بمثل هذه المساوئ، إني أجزع أن أقوم للصلاة لئلا تنحدر عليّ نار من السماء فتبيدني لأن الذين قدموا في البرية نارًا غريبة خرجت من عند الرب فأحرقتهم… فماذا يكون لي من عظم ذنوبي؟
لكني أثق برأفات الله وتوسلاتكم عني فلا تفتروا في التضرع لأجلي لأعتق من عبودية تلك الآلام فقد عمي قلبي… واظلم ذهني، وصرت مثل الكلب الذي يعود إلى قيئه فإنه ليس لي ذهن نقي، ولا دموع في صلاتي إن تنهدت جفت دموع وجهي من الخزي.
جاهدوا معي يا إخوة في الصلوات طالبين رأفات الله. ليعطني أنا العطشان من ينبوع الحياة… أنيروا قلبي يا من صرتم أبناء النور أرشدوني أنا الضال إلى الطريق المؤدي إلى الحياة. أدخلوني إلى باب الملك يا من صرتم للملك وارثين.
فلتدركني رأفات الله قبل أن تنكشف أعمال الظلمة جهارًا فأي خزي يكون لي عندما يقال لي إني تركت الطريق الروحانية وخضعت للآلام.
لا أريد أن أطيع وأشاء أن أطاع. لا أريد أن أتعلم وأشاء أن اعلم. لا أختار أن أتعب و أريد أن ُأتعب. لا أريد أن أعمل وأشاء أن أحض على العمل. لا أريد أن أكرِّم وأشاء أن أكرم. لا أريد أن أعير وأشاء أن ُأعير. لا أريد أن ُأحتقر وأشاء أن أتكبر على الآخرين. لا أختار أن أوَبخ وأشاء أن أوبخ. لا أريد أن أرحم وأطلب من يترحم عليّ. لا أشاء أن ُأنتهر وأريد أن انتهر. لا أريد أن ُأظلم وأشاء أن أظلِّم الآخرين. لا أختار أن ُأضر وأشاء أن ألحق الأذى بالآخرين.
ما أشاء أن أسمع وأريد أن يُسمع لي. لا أشاء أن امجد وأؤثر أن ُأمجد. حكيمًا في الوعظ لكن لست في العمل أقول ما يجب وأعمل ما لا ينبغي.
ابكوا عليّ أيها المحبون النور، ابكوا عليَّ أنا الغريق بالآثام أيها المبغضون الشر، والمحبون الخير. ابكوا عليَّ أنا الذي تركت العالم بالزي فقط. ابكوا عليَّ أيها المقتنون المحبة الكاملة. إذ أحب قريبي بالأقوال وأبغضه بالأفعال. ابكوا عليَّ أيها المقتنون الصبر أن الغير صبور. أيها المشتاقون إلى الآب ابكوا عليَّ أنا الفاقد الأدب. ابكوا عليَّ أنا الغير مستحق أن أتفرس وأبصر علو السماء أيها المقتنون وداعة موسى وأنا أضعتها بإرادتي. أيها المقتنون صبر أيوب أنا الغريب عنه. ابكوا عليَّ يا من ليس لديكم قنية كالرسل. ابكوا عليَّ أنا الضعيف والجبان يا من حفظتم هيكل الله بلا دنس وأنا قد دنسته. ابكوا عليَّ يا من تتذكرون الموت وأنا غير متذكر هذا السفر إنكم تتصورون الدينونة التي بعد الموت وأنا أتذكر ضدها. ابكوا عليَّ أيها الوارثون ملكوت السموات أنا الذي لم تترك الخطية فيَّ عضوًا صحيحًا.
يا إخوتي ها أنا قد كشفت كلوم نفسي فلا تتوانوا لأجلي أنا المتألم لكن أطلبوا من الطبيب لأجلي أنا السقيم. أطلبوا إلى الراعي من أجل الخروف، وإلى الملك من أجل الأسير، وإلى الحياة من أجلي أنا المائت لأنال الخلاص الذي لربنا يسوع المسيح ويرسل نعمته من أجل زلق نفسي.
لا أزال أعمى وأروم أن أرشد العميان… لذا فأنا محتاج إلى صلوات كثيرة حتى أعرف قدري! ليضيء قلبي المظلم، وتسكن
في عوض الجهالة تلك المعرفة الإلهية إذ لا يصعب على الله ذلك فكلما شق لشعبه طريقًا في البحر، وأمطر عليهم المن وأعطاهم السلوى كرمل البحر ومن صخرة روى عطشهم. ..فما يستطيع أحد أن يشفي أوجاع نفسي إلا هو إذ يعرف أعماق قلبي. كم مرة بنيت حيطان بيني وبين الخطية لكن هدمت إذ لم تؤسس على التوبة الخالصة، فلذلك أقرع الآن ليفتح لي… إني أطلب من صلاحك صفحًا عن أعمالي… يارب جردني عن كل فعل خبيث لكي أجد نعمة أمامك في ساعة الوفاة لأنه ليس في الجحيم من يسبحك.
أطوب حياتكم أيها المحبون المسيح لأنها حسنة هي الدالة وويلي لأن سيرتي عاطلة وغير نافعة أغبطكم يا خدام المسيح المخلصين لأنكم بسيرتكم المستقيمة جعلتم ذاتكم أحباء الله والملائكة.
من لا ينوح عليَّ؟ لأني أغظت الله بأعمالي الباطلة. مغبوطون أنتم الذين قد ورثتم الفردوس بسيرتكم النقية وبمحبتكم… إني متعجب منكم كيف ما عجزتم عن مسير مسافة هذا الطريق من أجل ما يوافق أنفسكم وما هو أعجب بالحقيقة كيف جئتم أنتم الشباعى إلى الجائع؟ كيف أقبلتم أنتم أصحاب الندى الروحاني إلى المتعطش؟ كيف أنتم المالكون حلاوة الفضائل جئتم إلى المتمرغ بالخطايا؟ كيف يأتي الأغنياء إلى الفقير؟ كيف يقبل الحكماء إلى الجاهل؟ كيف جاء الأطهار إلى الدنس؟ كيف جاء الأصحاء إلى المريض؟ كيف ورد الذين يرضون الله إلى من يبغضه؟ كيف جاء الأحرار إلى المأسور، كيف أقبل المهتمون بالخلاص إلى المتواني؟
أنتم بالفضائل أرضيتم الله وأنا بجهلي أدان، أنتم بالأعمال الحسنة وبالطهارة صرتم طيبًا للمسيح، وأنا بشروري صرت بكليتي نتانة كريهة. أقبلتم إلىَّ أيها المحبون المسيح مريدين أن تعضدوا رخاوتي وتجعلوا نفسي المتوانية مهتمة وحريصة وتشجعون صغر نفسي لأنكم كاملون في الفضيلة فإذ قد التمستم بتواضع أن تقتبسوا مني أنا الناقص كلام منفعة وأمرتموني بهذا فإنني في خزي أتكلم.
فإن بدأت أشير عليكم فإنما أدين نفسي، وإن ابتدأت أوبخ آخرين فإما أثلب ذاتي لأن المخلص يقول أيها الطبيب اشفي ذاتك. وقال أيضًا “كل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون”
فلذلك إن كنت دنسًا لكنني أشير عليكم رأيًا مستقيمًا. فإذا أطوب كل من في هذه السيرة الملائكية وازداد فيها إذ من لا يغبط الذي في تلك السيرة والمتصرف بالطهارة من أجل الخيرات العتيدة التي لا تحصى ومن لا ينوح على التواني إذ من أجل أمر حقير يلقى خارج الملكوت ولجدب أعمال الخير عنده يخرج عن الخدر السمائي.
كم هي طول أناة الله إنه يُذم ويُثلب فيحتمل بتمهل وما يسخط، يُستهان به فلا يحقد، بل يمنحنا بكثرة كل الخيرات ويرحم لأنه يريد أن يوصلنا كلنا إلى التوبة لأنه صانع الخيرات.
ماذا أصنع أنا الخاطيء لأنني تراب ورماد ولا يمكنني أن أحتمل شيئًا بل ولا أشاء أن أحتمل كلمة أخي. لأنني إذ لا ُأكرم أغتاظ وإذا ُأكرمت تشامخت. ويلي ويلي أنا الخاطيء.
أيها الابن الوحيد الجنس يا شعاع الآب. الساكن في النور الذي لا يُدنى منه والذي لا يُدرك، المنير بنعمتك كافة المسكونة. أضيء عقلنا المظلم لأنه مثل غرس جديد يحتاج إلى سقي الماء دائمًا. كلمتك يارب فتحت عيني المولود أعمى، وحين أبصر بعينيه الجسدانية أضاء ذهنه للحين ليشيد بلا خوف عن طبيبه فإنه إله الكل. أضيء أعين قلوبنا أيها السيد ونكمل بشوق مشيئتك دائمًا فهي كأس دمك الرهيب موعبة نارًا وحياة فهبها لنا للاستنارة ولنتقدم لها بإيمان وشوق وقداسة ليصير لنا تمعينًا لخطايانا للإدانة. إذ يشجب ذاته من لم ينظف نفسه ليقبل الملك في حجلته.
النفس عروس المسيح المقدسة للختن الذي لا يموت، والعروس هو الأسرار الإلهية فلتكن مشتاقًا أن تقبل الختن السمائي لكيما في يوم مجيئه يصنع لك منزلا عند أبيه ويكون مديحك كثيرًا أمام رؤساء الملائكة والملائكة والقديسين.
أيها الأخ ماذا يلتمس الله منك سوى خلاصك؟!
فإن لم تشأ أن تكمل وصاياه فإنك تقتل نفسك وتخرج ذاتك من الخدر السمائي. إنه لم يشفق على ابنه الوحيد الذي بلا خطية وحده، وأنت يا شقي ما ترحم ذاتك. استيقظ من نومك قليلا يا مسكين. افتح فمك مستغيثًا به، اطرح عنك ثقل خطاياك، ارحم نفسك، تضرع بمداومة، ابك كثيرًا. اهرب من الاسترخاء، امقت الخبث أرفض الرذيلة، حب الوداعة، ادرس التسبيح، احرص أيها الأخ مادام يوجد وقت.
حب الله من كل نفسك كما أحبك هو، صر هيكلا لله فيسكن فيك فإن النفس الحاوية الله هي هيكل الله المقدس. تصير مسكنًا للاهوت وتتبادر دائمًا إلى افتقادها مواكب الذين لا أجسام لهم فمنذ يسكن الرب في النفس فالملائكة السمائيون يبتهجون بها ويحرصون دائمًا أن يكرموا تلك النفس لأنها هيكل سيدهم.
تعالوا يا إخوتي المباركين واسمعوا فنفسي توجعني وجوانحي تؤلمني أين هي الدموع، أين التخشع؟ حتى يحمي جسدي بالدموع والزفرات، ممن ينقلني إلى مكان غير مسكون حيث لا يوجد البتة صوت البشر، وحيث يكون الصمت، حيث لا يوجد إنسان يعوق البكاء ويقطع الدموع.
فأرفع صوتي وأبكي لدى الإله بعبرات مرة وأقول بزفرات: اشفني يارب فأبرأ لأن قلبي من الإفراط يوجعني، إذ أعاين يا سيدي قديسيك كذهب منتخب وهكذا تأخذهم من العالم الباطل إلى نياح الحياة بمترلة الفلاح إذ رأى الثمار بلغت أوانها فيسارع إلى قطفها لئلا تتلف من عوارض الفساد. فهكذا أنت أيها المخلص تجمع العاملين البر، ونحن الذين في تهاوننا وقساوتنا مازال ثمرنا لم يتغير، إذ لن نبلغ حسنًا الأعمال الصالحة ونقطف إلى مخازن الحياة فالثمر الذي لنا ليست له دموع تصل به إلى اكتماله، ولا تخشع البتة لتتباهى نضارته من نسيم العبرات، ولا تواضع أصلا ليظلل فوقه من شدة الحر، ولا ترك قنية لتنتقل من الأمور المضادة، ولا محبة الله القوية الحاملة الثمار، ولا عدم الاهتمام بالأمور الأرضية ولا سهر ولا عقل متيقظ في الصلاة.
إذ عوض هذه الفضائل يوجد ما هو ضدها، حقد، وغضب يعوقان الثمر لئلا ينمو فينتفع بهم وضجر عظيم هذه كلها كيف تترك الثمر ينمو ويكتمل كما يليق؟!
ويلي ويلي يا نفسي تكلمي وابكي إذ أين الآباء النساك الأبرار أين هم الآباء الكاملين؟
أين هم القديسون؟ أين المتيقظون؟ أين الساهرون؟
أين المتواضعون؟ أين الودعاء؟ أين الصامتون والذين في السكوت؟
أين الودعاء والعادمون القنية؟ أين المتخشعون الذين أرضوا الرب؟
أين الذين كانوا في الصلاة النقية قدام الله كملائكة منيرين؟
أين الباكون بخشوع؟ أين الذين حملوا صليبهم وتبعوا المخلص وسلكوا ذلك الطريق الضيق، بل وسلكوا طريق الحق؟ طريق وصايا الرب وخدموا الله بسيرة حسنة؟
لقد أحبهم الله جدًا وضمهم إلى ميناء الحياة والفرح الخالد ليتنعموا هناك في فردوس النعيم إذ بفرح عظيم ساروا إلى الإله القدوس ومعهم مصابيحهم مضيئة.
ليس فينا فضيلة مثل أولئك. بل ولا نحتمل بعضنا البعض إذ ألسنتنا محماة على بعضنا، كلنا نلتمس الكرامة، نؤثر التشريف، نبتغي الراحة، نحب القنية، غير مثابرين في الصلوات، غير خاضعين، ضعفاء في السكوت، نشيطين في التنعم، باردين في المحبة، حارين في الغضب، عاجزين عن الصالحات، وحريصين في السيئات.
نرى من لا ينتحب ومن لا يبكي على محبتنا الرخوة. لقد كان آباؤنا مرآة صافية للناظرين بل وكانوا يبتهلون إلى الله من
أجل أناس كثيرين.
ويلي ويلي يا نفسي في أي زمان أنت؟ وإلى أية حمأة قد بلغتي؟
وأي عذر يكون لنا أمام الله من أجل توانينا في خلاصنا إن لم نحرص الآن ونبكي بشدة ونتوب حسنًا بتواضع نفسي ووداعة كثيرة. ليقل كل واحد منا بدموع غزيرة ويلي أنا الخاطيء ماذا دهمني بغتة، كيف عبر عمر رخاوتي؟ وكيف أنا الغبي سرق زماني؟ أين تلك الأيام التي قضيتها؟ وماذا أنتفع من كثرة هذه الأقوال إذا رأينا القديسين يأتون بمجد في السحب لملاقاة ملك المجد، أما نحن فنكون في ضيقة عظيمة. ترى من يستطيع أن يحتمل ذلك الخزي والتعيير!
فلنستيقظ وننهض يا إخوتي أحباء الله، ولنجمع أفكارنا قليلا من هذا العالم الباطل، ونجثو أمام الله بعبرات غزيرة متضرعين
بزفرات القلب لينجينا من العذاب المر، ولكي لا نفارق السيد الحبيب الذي بذل ذاته للصلب من أجلنا، وأنا الغير المستحق والخاطيء أتضرع إليكم أن تسكبوا من أجلي دموعًا في صلواتكم وطلباتكم النقية طالبين لأجلي لأتخشع ويستضيء قلبي الأعمى، كما أطلب إلى الإله القدوس لكيما يعطيني نشاطًا قليلا مع حرص فأتوب مادام يوجد وقت مقبول للدموع أنا الغير المستحق الحياة أطلب إليكم أن تقبلوا استغاثة أفرآم الخاطيء أخيكم المسترخي، ولنحرص كلنا أن نطلب غفران الإله القدوس لأن الرب واقف على الأبواب ليصنع انقضاء العالم الباطل.
له السبح والمجد الدائم إلى الأبد آمين.
أنت إنسان تراب الأرض طين، قريب لكل ما هو أرضي وحقير، ابن للجنس الحيواني. إذا كنت لا تعرف كرامتك فاعزل ذاتك عن الحيوانات بالأعمال لا بالأقوال، إذا كنت ولوعًا بالسخرية فأنت لا تختلف عن الشيطان وعندما تهزأ من قريبك فأنت فم إبليس.
إذا كنت تسر بالضعفات والخطايا بألفاظ جارحة فالشيطان لم يعد له مكان في الخليقة لأنك قد اغتصبت مكانه عنوة. اهرب
من هذا يا إنسان لأن هذا أمر ضار ومؤذ، وإذا أردت أن تحيا حسنًا فلا تجلس مع المستهزئين لئلا تشترك معهم في خطيتهم
وفي عقوبتهم، عليك أن تبغض السخرية حتى تصل إلى البكاء، وارفض الطرب حتى تقتني طهارة النفس، وإذا صادف أن سمعت ساخرًا على غير إرادتك فارسم على نفسك علامة صليب النور واهرب عاجلا من هناك كالظبي لأنه حيث يسكن الشيطان لا يمكن أن يسكن المسيح. فالإنسان الذي يسخر من قريبه إنما يفسح مكانًا رحبًا لسكنى الشيطان، ويصبح قلبه قلعة لإبليس ولا يحتاج الشيطان إلى إضافة أي خطية أخرى لمثل هذا لأن السخرية في ذاتها كافية أن تفتح المصراع للجميع. فبسبب ضحك هذا الساخر يحزن البائس والمسكين وهو لا يعلم ذلك ولا يدركه. جرحه لا يندمل وعلته لا شفاء لها. وألمه بلا دواء وضربته لا تقبل العلاج. ليست بي حاجة أن اجعل لساني في توبيخ مثل هذا الإنسان فيكفيه عاره المخجل وتكفيه جرأته الوقحة. طوبى لمن لا يسمعه ولمن لا يعرفه. فهذا الشرير خميرًا لإبليس.
لا تغضب إنسانًا لئلا يلقبونك بالشيطان فإن كنت تكره مجرد الاسم فلا تقترب من ذات الفعل. أما إذا كنت تحب هذا التصرف فلا تغضب من هذا اللقب. أنظر إلى الطيور ووبخ نفسك أولا مما تراه فيها فكل نوع يلتصق بجنسه ومنها تتعلم أن
تتفق مع رفيقك في النير، ولا تبتهج بما يصيب الناس من المهانة حتى لا تكون أنت نفسك شيطانًا. فإذا حدث شر لمن بغضك
فلا تفرح لئلا تخطيء فإن سقط عدوك فتألم من أجله واحزن.
احفظ قلبك حتى لا يخطيء داخليًا (أم 4: 23) لأن كل أفكار الإنسان وأفعاله سوف تعلن أمام الجميع. سخر يديك في العمل ودع قلبك يهذي بالصلاة، إياك أن تحب الأحاديث البطالة لأن الحديث النافع يبني الجسد والروح ويخفف من عبء عملك.
بالنسبة للبار والمستقيم تصبح التجارب عوامل مساعدة. لقد انتصر أيوب على التجارب بالتمييز والحكمة. لقد حل عليه المرض فلم يئن أو يشك. لقد أقضت العلة مضجعه ولم يتذمر، ذبل جسده وتداعت قواه ولكن إرادته الصالحة لم تضعف، لقد أثبت كماله في كل آلامه على قدر ما عجزت التجارب عن سحقه، كان إبراهيم غريبًا عن وطنه وبيته وأقاربه ولكن لم يصبه أذى بل لعل هذا عزز انتصاره في جهاده، وهكذا يوسف في بيت العبودية انتقل ليحكم كملك مصر. تأمل الذين رافقوا وحنانيا، خلصوا آخرين من العبودية. تأمل أيها الحكيم القوة التي تمتلكها الحرية لا شيء يستطيع أن يصيبها بأذى ما لم تضعف الإرادة.
أتخم إسرائيل بحياة الترف والمتعة فترك عهده مع الله ونسيه (تثنية 32: 15) فقدم عبادته لآلهة كاذبة، ونسى طبيعة خلقته، نسى أيام عبوديته في مصر عندما استراح السبت في البرية، كلما حاصرته الضيقات عندئذ فقط كان يعترف بالرب الإله ولكن عندما يسكن أرض الراحة كان ينسى الرب مخلصه، لا تلتمس الراحة في هذا العالم لأن هنا ارض الشقاء. وإذا كنت حكيمًا فلا تستبدل زمانًا بزمان، لا تستبدل الحياة الباقية (الأبدية) بالفانية، لا تستبدل الأبدية بالزمنية، ولا الحق بالكذب، ولا الجسم بالظل ولا اليقظة بنوم الغفلة، ولا اللائق بما لا يليق، ولا الدهر بالأزمنة.
اجمع ذهنك ولا تدع فكرك يطيش في أمور مختلفة لا تفيد.
لا يوجد في الخليقة غني إلا من هو يخاف الله، والفقير الحقيقي هو من لا يملك الحق. ما أشد حاجة الإنسان وفقره، حتى أنه يلتمس حاجته من المنبوذين والفقراء، وسوف تكون حاجته هذه شاهدًا ضده، إنه مستعبد حقًا وكثيرون يسودون عليه، مستعبد للمال، والثروة والمقتنيات. سادته تنعدم فيهم الرحمة لأنهم لا يسمحون له بالراحة. اهرب من هذا العناء والتمس حياة الفقر لأنها تحنو عليك كما تحنو الأم على وحيدها، تحصن بالحاجة والعوز لأنه يطعم صغاره بالأشياء المختارة، إن نيره هين ولطيف، ويلذ تذكاره لحقك. مرضى الضمائر وحدهم هم الذين يرفضون جرعة الفقر، ضعاف القلوب هم الذين يجزعون من نير العوز الشريف، من الذي أعطاك يا ابن الإنسان أن تجد راحة في العالم؟ من الذي أعطاك يا وليد التراب أن تكون غنيًا في وسط الفقراء؟ لا تكن حاجتك وهمومك وتطلعك للآخرين بسبب الميول والرغبات يكفيك طعام يومك الذي
تكسبه بعرق جبينك، ليكن هذا هو مقياس احتياجك. فإذا دعيت على وليمة فلا تأكل منها إلا على قدر حاجتك، ولا تأكل في يوم طعام أيام لأن البطن لا تدخر طعامًا بل سبح الله وأشكره.
عندما تشبع حتى لا تغضب واهب العطية شدد نفسك في الطهارة حتى تكسب من ورائها نفعًا. في كل شيء أشكره وسبحه كفادي نفسك حتى يعطيك حسب نعمته أن تسمع وتعمل مشيئته المقدسة.
وإذا قدمت إليك مشورة الحياة فلا تتغافل عنها. لقد كتبت إليك ما كتبت مما أخذته من تعاليم الآخرين، فإياك أن تحتقر كلماتهم وإذا سبقت في الرحيل فاذكرني في صلاتك في كل وقت.
صل وتضرع حتى تستمر محبتنا صادقة. أما بالنسبة لنا فيما يختص بهذه الأمور فلنقدم السبح والكرامة للآب والابن والروح القدس الآن وإلى الأبد آمين.