تقع الرها جنوب
شرق تركيا, وتعتبر عاصمة أوسرين وهي من أمهات مدن بلاد مابين النهرين من حيث
إستراتيجية موقعها و المكانة العلمية والأدبية المرموقة التي حازتها.
وقد مرّ على الرها
عدة عصور تاريخية منها البابلي, الأشوري, السلوقي, الفتوحات الإسلامية إلى زمن
إعلان الجمهورية التركية.
وقد استنارت هذه
المدينة بنور المسيحية بزمن حاكمها أبجر الخامس معنو الملقب بأوكاما.
وبعد ذالك أضحت
الرها مركزا هاماً من مراكز المسيحية, كما عرفت كواحدة من أهم المتروبوليتيات
المشرقية.
وأهم ما كان يميز الرها مدرستها الشهيرة التي كانت منارة من منارات العلم والأدب
تشع بعلومها الفلسفية واللغوية واللاهوتية على الشرق كله, وكما اشتهرت باستعمالها
لأنقى لهجات السريانية
[1]
حسب رأي الباحثين اللغويين.
وقد درج في تاريخ
هذه المدينة المباركة – التي تعددت تسمياتها وتنوعت مابين أوديسا, الرها, أورفا –
أسماء لامعة لأدباء وشعراء وفلاسفة و رجال دين منهم: برديصان (222+), الملفان أفرام
النصيبيني (373+) وقد كان أشهر من تسلم إدارة مدرستها, رابولا الرهاوي (435+),
الملفان نرساي (492+), يعقوب الرهاوي (708+) وكثيرين.
ففي هذه المدينة
المباركة أبصر النور إبراهيم أبن نوري كهلجي (أبروهم نورو) سنة 1923 من عائلة
سريانية أرثوذكسية
[2].
وبتاريخ 25 شباط
من عام 1924 هجر السريان الرهاويون مدينتهم وما فيها من أمجاد وعظمة, وقصدوا مدينة
حلب, وسكنوا في رابية من روابيها سميت ببراكات السريان وقتئذٍ, ومن بين الذين
هاجروا نوري كهلجي وعائلته وصاحب ترجمتنا في عامه الأول.
وأما عن أسباب
هجرة هذا الشعب فأنه قد أقتلع من جذوره لأسباب لا إنسانية يطول بنا الحديث عند
ذكرها. وعلى عادة أبناء شعبنا فأنه أينما حلوا كانوا يبنون مدرسة بجانب كل كنيسة,
فهكذا فعل المهاجرون الرهاويون فأرادوا أن تكون مدرستهم في حلب امتداداً لمدرسة
الرها العريقة, ففي هذه المدرسة درس الفتى أبروهم على يد المعلم أسحق طاشجي مبادئ
اللغة السريانية, الصلوات الفرضية البسيطة بكتاب (الإشحيم) و الألحان الكنسية بكتاب
(البيث كاز).
ومن ثم أنتقل
لمدرسة مار أفرام بحي السليمانية وهناك زاد حبه للغة السريانية وخصوصاً بوجود
ملافنة كبار أمثال يوحانون قاشيشو
[3]
و غطاس مقدسي الياس
[4] .
تدرج بالدراسة حتى
نال شهادة البكلوريا ومن ثم أنتقل لبيروت ليدرس الحقوق بجامعة القديس يوسف وهنا
بدأت اتصالاته بالمهتمين باللغة و الأدب السرياني من رهبان و أباء موارنة.
وبعد سنتين عاد
إلى المدينة التي كبر فيها و الحي الذي أحتضنه بصغره لينخرط بمؤسسات الطائفة وخاصةً
في مرعيث (رعية)مار جرجس - حي السريان, فأخذ يؤسس مع نخبة من الشباب الأخويات ومنها
الإيماس للمرحلة الجامعية, الإيتاس للمرحلة الثانوية و الإيصاص للجامعيين.
وهنا بدأ حبّ
الشاب أبروهم يكبر للغة السريانية و وصل لحد العشق, على عكس الشباب الذين بعمره و
الذين يبحثون عن زوجات أخذ هو بالبحث والتعمق في هذه اللغة ومصلحاتها فلقنها في
البداية لأفراد أسرته لتضحي بذلك أول أسرة تتكلم بالسريانية الفصحى في البيت.
كانت انطلاقته في
عالم تدريس السريانية عام 1947 فكانت أولى دوراته بالقدس وهكذا تتالت الدورات في
كلٍّ من دمشق, حلب, جبل لبنان وفي أديرة الرهبان الموارنة.
وفي عام 1967 زار
معظم المراكز السريانية
[5]
في العالم, وألّف في هذه الزيارات كتاب أسماه جولتي وقيه معلومات عن هذه المراكز
وعن الكتّاب و الأدباء السريان.
وكان الملفونو
أبروهم قد أبتكر طريقة تعليم جديدة بأسلوب سمعي بصري حديث أسّماها طريقة السولوقو,
وطبعت في كتاب بهولندا سنة 1989.
و الجدير بالذكر
أن ولع الملفونو أبروهم باللغة السريانية والغوص الدائم في كتبها أنساه الزواج,
فنرى أنه في عقده السابع يتزوج من السيدة أنطوانيت باندو, التي ظلت ملازمةً له حتى
وفاته تهتم به وتساعده خاصةً في سنواته الأخيرة.
وفي عام 1997 أصد
كتابه الثالث المعنون (تولدوثو سرييتو) أي المصطلحات السريانية المستحدثة, وهو
حصيلة جهد كبير وأعوام عديدة من الدراسة و البحث.
ويملك الملفونو
أبروهم مكتبة ضخمة تعتبر من المكتبات السريانية التخصصية القليلة في سوريا, فهي
مكتبة شاملة جمع كتبها خلال ستة عقودٍ من الزمن فيها كتب سريانية و عربية و تركية,
أنكليزية و فرنسية و ألمانية. و أما موضوعاتها فهي تتنوع مابين التاريخ,اللغة,
النحو, الدين, الصحة والطب وعدد كبير من القواميس (من وإلى السريانية) حوالي 150
وأغلبها أبن الطبعات الأولى النادرة والمفقودة.
وقد تخطى حبّ صاحب
الترجمة اللغة السريانية إلى البحث في تاريخ الشعب المتكلم بها وهويته فيقول في
هذا الشأن: نحن نعرف بأننا تلاميذ نعوم فائق ونكمل كلماته ونصائحه وإرشاداته.
ويتابع الملفونو فيقول: كان يوحانون قاشيشو أول من فتح أعيننا على هذا الطريق
وكذالك المطران دولباني.
وقد كان الملفونو
من دعاة الوحدة القومية لأبناء شعبنا وعنده الوحدة هي الحل ّللوصول لأهدافنا
القومية, كما أنه لا يرى مستقبلاً لأبناء شعبنا إلا في أرضه أرض بلاد مابين النهرين
ومهما تعددت الأسماء فنحن شعب واحد.
و أما عن العراق
فلأبروهم نورو أمل بأن يحل السلام فيه عن قريب و الأصوليون سينتهون ويكون هناك
منطقة أمنة لأبناء شعبنا منطقة حكم ذاتي (سهل نينوى) ونعيش مع بقية جيراننا بسلام
فيقول: نحن أعطينا أشياء كثيرة للعالم, ونحن أحفاد بلاد مابين النهرين وسنعيش في
أرضنا بسلام.
وأما عن ما يسمى
بحرب التسميات فالملفونو أبروهم ينصح بتخطي هذه الحرب و الالتفات لما يجمع لا لما
يفرق, كما نصح رجالات الأحزاب المتصارعة و الغارقة في دوامة التسمية بأن يعودوا إلى
التاريخ و لِلأصل, ويتركوا المصالح الفردية و الفئوية و العنصرية ويهتموا بالمصالح
القومية والوحدوية والثقافية.
ولمدينة القامشلي
مكانة خاصة في قلب وعقل الملفونو أبروهم فهو كان ينظر إليها اليوم كوريثة لتراث
مابين النهرين ومركزا هاماً من مراكز اللغة السريانية.
و الملفونو يتقن
اللغات السريانية والعربية والإنكليزية والفرنسية و التركية مع بعض الإلمام
بالألمانية. وقد حاضر كثيراً في عن السريانية و لغتها في كامبريدج و أكسفورد و
الهند وأوروبا وسوريا ولبنان بالإضافة لجزيرتنا العزيزة.
و بتاريخ 6 كانون
الثاني 2009 انتقل الملفونو أبروهم نورو إلى الأخدار السماوية عن عمر يناهز
(85)عاماً بعد حياة مكرسة لخدمة اللغة السريانية فكان بحق رسولا من رسل اللغة
السريانية ظل ينطق بها طيلة حياته, وكان يحملها معه لأي مكان تطأه قدميه. وهكذا شيع
إلى مثواه الأخير في مأتمٍ لم يشهد مثله الرهاويون السريان بحلب.
واليوم بوفاة
الملفونو أبروهم نورو فقدت اللغة السريانية حارساً من حراسها وعلماً من أعلامها فقد
كان وقع نبئ رقاده محزناً على كل من عرفه وكل من تعلم منه وكل من قرأ له, توفي
راحلنا الكبير ولديه الكثير من الأوراق الهامة و النادرة والتي كانت بحاجة إلى
النشر.
واليوم بوفاة هذا
المجاهد العظيم في حقل اللغة السريانية, يراودوني سؤال أترك جوابه إليكم أيها
القراء الأعزاء, وهو هل نال هذا الشخص حقه من التكريم؟
المصادر
1- عدة لقاءات مع المرحوم
الملفونو أبروهم خلال وجودي بحلب
2- أدب اللغة السريانية للأب
ألبير أبونا الطبعة الثانية دار المشرق بيروت 1996
3- مقدمة المطران يوحنا ابراهيم
في كتاب مشاعل الرها للمربية سارة دوغرامجي الطبعة الأولى دار ماردين حلب 2004
|