من هو الرسول يوحنا؟
الأركذياقون د. خوشابا كوركيس:
يوحنا الرسول هو ابن زبدي من بيت صيدا في الجليل. دعاه يسوع
مع أخيه يعقوب الذي قتله هيرودس أغريباس الأول ليكونا من تلاميذه (متي 4 : 21،
أعمال 12 : 1 ، 2) ويبدو أنه كان على جانب من الغنى لأن أباه كان يملك عدداً من
الخدم المأجورين (مرقس 1 : 20)، أما أمه سالومة فقد كانت سيدة فاضلة تقية،
وكانت شريكة النساء اللواتي اشترين الحنوط الكثير الثمن لتكفين جسد يسوع. وكانت
على الأرجح أخت مريم أم يسوع (يوحنا 19: 25).
وقد اتخذ مهنة الصيد حرفة، لأن عادات اليهود كانت
تقضي على أولاد الأشراف أن يتعلموا حرفة ما. وكان يوحنا من تلاميذ يوحنا
المعمدان ومن تلاميذ يسوع الأولين (مرقس 1: 19 و 20 ومتي 4 : 21 و 22). وكان
وأخوه شريكي سمعان في الصيد (لوقا 5 : 10) وكان معروفاً لدى قيافا رئيس الكهنة
(يوحنا 18 : 15). وربما كان له بيت في أورشليم (يوحنا 19 : 27). وكان وأخوه
حادي الطبع سريعي الانفعال والغضب (مرقس 9: 38) ولوقا 9 : 52 – 56)، فلقبهما
يسوع "أبني رعد" أو الغضب (مرقس 3 : 17). وكانا طموحين نزاعين إلى العظمة
والمجد. بيد أن هذه النزعة تلاشت فيهما فيما بعد، وأصبحا على استعداد لمجابهة
الموت في سبيل المسيح ورسالته (مرقس 10: 35 – 40) ومتي 20 : 20 – 23). وفي
قائمة الرسل يذكر يوحنا دائماً بين الأربعة الأولين (متي 10 : 2 ومرقس 3: 14 –
17 ولوقا 6 : 13 – 14). وكان أحد الرسل الثلاثة، الذين اصطفاهم يسوع ليكونوا
رفقاءه الخصوصيين، وهم بطرس ويعقوب ويوحنا. فهؤلاء وحدهم سمح لهم أن يعاينوا
اقامة ابنة ياريس (مرقس 5: 37 ولوقا 8: 51)، والتجلي (متي 17: 1 ومرقس 9 :2
ولوقا 9 : 28)، وفي جهاده في جثسيماني (متي 26 : 37 ومرقس 14 : 33). وقد وثق
يسوع بيوحنا وأحبه بنوع خاص وذلك يظهر من تسميته له "بالتلميذ الحبيب". فهو وإن
لم يذكر اسمه جهراً في البشارة الرابعة من البشائر فانه يتبوأ مكاناً سامياً
فيها. وظل يوحنا أميناً لسيده، ملازماً له حتى النهاية. وفي الليلة التي أسلم
فيها سيده، تبعه إلى دار رئيس الكهنة، من قرب لا من بعد، كما فعل بطرس. وعند
الصليب ظل أميناً، فأخذ من يسوع أجل وديعة، إذ أوصاه بالعناية بأمه. وعندما قصد
القبر الفارغ في بكور يوم القيامة كان أول من آمن بقيامة المسيح (يوحنا 20: 1 –
10). ولهذا دعي دون غيره بـ "التلميذ الحبيب".
لقد كان يوحنا من الزمرة القليلة التي بقيت في أورشليم
بعد الصعود (أعمال 1: 13) . ونراه مرتين مع بطرس. المرة الأولى عندما صعد
الاثنان إلى الهيكل، فشفيا الاعرج (أعمال 3 : 1-4 / 23). والمرة الثانية عندما
قصدا السامرة لتفقد أحوال الكنيسة الناشئة التي كان يشرف عليها فيلبس هناك
(أعمال 8 : 14 – 17). وكذلك نعرف أن يوحنا كان أحد أعمدة الكنيسة في أورشليم
إلى جانب يعقوب وبطرس، يوم زارها بولس على أثر رحلته التبشيرية الأولى، ويوم
بدأت بوادر أول عاصفة من عواصف الاضطهاد تثور ضدها (أعمال 15 : 6 وغلاطية 2 :
9).
ولدينا في العهد الجديد خمسة أسفار نسبت إلى يوحنا وهي :
البشارة الرابعة، والرسائل الثلاث، وسفر الرؤيا. ويقول التقليد أن يوحنا نادى
بالانجيل في آسيا الصغرى، ولا سيما في أفسس، وبموجب هذا التقليد تكون الكنائس
السبع في آسيا الصغرى قد تمتعت برعايته واهتمامه (رؤيا 1 : 11). وقد نفي في
الاضطهاد الذي حدث في حكم دوميتيانوس العاهل الروماني الى جزيرة بطمس. وهناك
تجلت عليه مناظر الرؤيا وأوحى إليه بكتابتها. وعندما تبوأ " نيرفا" العرش سنة
96 ب م أطلق سراحه، فرجع إلى أفسس. وكان بوليكاربوس، وبابياس، وأغناطيوس من
تلاميذه. ويقول ايرينيوس أن يوحنا بقي في أفسس حتى وفاته في حكم تراجان (98 –
117 ب م) ويقول ايرونيموس أنه توفي سنة 98 ب م.
هذا وسوف نأتي إلى الأسفار الخمسة في العهد الجديد
والمنسوبة إلى الرسول يوحنا ونتناولها بالتحقيق في وقت لاحق وعلى صفحات مجلتنا
الالكترونية الغراء "كاروزوتا".
من هو البشير متى
الأركذياقون د. خوشابا كوركيس:
كان متي عشاراً (متي 10 : 3) وهو ابن حلفي (مرقس 2 : 14) إلتقى به يسوع في كفر
ناحوم فدعاه: "ومضى يسوع من هناك، فرأى رجلاً جالساً في بيت الجباية أسمه متي،
فقال له يسوع أتبعني، فقام وتبعه" (متي 9 : 9).
وهذا الجابي يدعى لاوي عند مرقس (2 : 14) وفي أنجيل لوقا
(5 : 27) فأعتقد بعض الأقدمين بوجود شخصين مختلفين، وهكذا قال أوريجين من
القدماء، ولا يزال بعض المفسرين يرون رأيه. لكن الأرجح أن النصوص الثلاثة تشير
إلى شخص واحد نظراً لسياق الكلام وتطابق الرواية. ففي النصوص الثلاثة تتم دعوة
الرجل بعد شفاء المقعد، ويتبعها عشاء في بيت العشار المهتدي يتخلله نقاش وأسئلة
يطرحها الفريسيون وتلاميذ يوحنا المعمدان.
ومن المرجح أن أسم الرسول الأصلي هو لاوي، ويقول
أيشوعداد المزوري أن الرسول غير أسمه على أثر دعوته، إذ رأى العشار ورفاقه
الجدد عظم النعمة التي منحها المسيح لهم بدعوتهم، لأن أسم متي تفسيره "عطية
الله"، ويؤيد تغيير الأسم في سياق الكلام إذ يقول أن الجابي "يسمى" متي، مما
يحملنا على الاعتقاد بأن أسمه الأصلي لم يكن هكذا.
دعوته من قبل المسيح سنحت له فرصة جمع عدد كبير من
أصدقائه: "وبينما يسوع يأكل في بيت متي، جاء كثير من جباة الضرائب والجاطئين
وجلسوا مع يسوع وتلاميذه. ورأى بعض الفريسيين ذلك، فقالوا لتلاميذه: لماذا يأكل
معلمكم مع جباة الضرائب والخاطئين؟ فسمع يسوع كلامهم، فأجاب: لا يحتاج الأصحاء
إلى طبيب، بل المرضى، فاذهبوا وتعلموا معنى هذه الآية: أريد رحمة لا ذبيحة. وما
جئت لأدعو الصالحين إلى التوبة، بل الخاطئين" (متي 9 : 10 – 13). كان متي يدرك
أن دعوته لم تكن إلا فعل رحمة من يسوع، فهو يعرف قدر نفسه، أنه إنسان خاطيء
ويمارس عملاً يلعنه الفريسيون علناً. وبالرغم من ظاهر اللامبالاة، فأن لاوي –
متي كان يشعر في أعماقه أنه خاطيء، وكان هذا الشعور يزداد ويتعمق في داخله.
فلما دعاه يسوع، كانت الدعوة تحرراً وانطلاقاً ولذلك لم يتردد برهة بل تجاوب
حالاً.
إن تلميح بطرس بقوله عن الأثني عشر: "ونحن فينا رجال
رافقونا طوال المدة التي قضاها الرب يسوع بيننا، منذ أن عمده يوحنا إلى يوم
أرتفع عنا" (أعمال 1 : 21 – 22) يدعونا إلى التفكير، فهل كان متي واحداً من
أولئك العشارين الكثيرين الذين هرعوا إلى الأردن بحثاً عن التبرير؟ "وجاء بعض
العشارين ليتعمدوا، فقالوا له: يا معلم، ماذا نعمل؟ فقال لهم: لا تجمعوا من
الضرائب أكثر مما فرض لكم" (لوقا 3 : 12 – 13). وبالحقيقة "جاء يوحنا المعمدان
سالكاً طريق الحق فما آمنتم به وآمن به جباة الضرائب والزواني" (متي 21 : 32).
ليس بإمكاننا أن نؤكد إذا كان متي قد تتلمذ على يوحنا المعمدان أم لا، ونستطيع
إفتراض ذلك لا غير، مع العلم أنه تجاوب في الحال مع دعوة يسوع على مثال بطرس
وإندراوس ويعقوب ويوحنا. ويمكننا أن نتصور بأنه كالأربعة المذكورين كان مطلعاً
على شهادة المعمدان ليسوع، وهو كالأربعة الآخرين مكث قليلاً عند الأردن وعاد
إلى عمله منتظراً ظهور المسيح.
عندما إلتحق متي بيسوع لم يصبح مسؤولاً عن صندوق
التلاميذ المشترك، رغم كونه أكثرهم خبرة في الشؤون المالية، بل كان يهوذا يقوم
بهذا العمل (يوحنا 12 : 6) وبالتأكيد أن متي رفض رفضاً باتاً الاهتمام بالمال
بعد أن أصبح ملكوت الله شغله الشاغل. لكن مهنته القديمة كانت قد تركت بصماتها
في طبيعته، فهو يعرف قيمة المال، وإذا تحدث عن هذا الموضوع فلأنه خبير فيه،
وأنجليه يشهد على ذلك، وسوف نتطرق إلى المشاكل المحيطة بانجيل متي، ورغم أن
النص اليوناني للانجيل كتبه أحد أفراد الجماعة المنتمية إلى متي، فيظهر أن هذا
الشخص أولى النصوص التي تتكلم عن المال اهتماماً خاصاً أكثر مما نلاحظه في
أنجيلي مرقس ويوحنا.
الملاحظة الأولى نجدها في نقاش الفريسيين بخصوص تأدية
الجزية لقيصر. فينقل لنا مرقس (12 : 25) قول يسوع: "هاتوا ديناراً لأراه" فاتوه
به، أي بالدينار، وينقل لوقا (20 : 24) تفاصيل الحادث، وقول المسيح: "أروني
ديناراً"، لكن متي (22 : 19) يكتب ما نصه: "أروني نقد الجزية" فأتوه بالدينار،
فالموضوع عند متي ليس أي دينار، بل "نقد الجزية بالذات" وهو الدينار.
الملاحظة الثانية نجدها في النص الخاص بدفع ضريبة الهيكل
التي أداها يسوع عن نفسه وبطرس، فهذا المشهد لم يذكره غير متي (17 : 24 – 27).
ومتي هو الوحيد بين الانجيليين يذكر مثل الكنز الدفين في
الحقل (متي 13: 44). ومثل التاجر الذي يقتني اللؤلؤ الثمين (متي 13 : 45 – 46).
وهو الوحيد أيضاً في الكلام عن العبد الذي يؤدي الحساب للملك إذ كان يطلبه عشرة
آلاف بدرة متي (18 : 23 – 35).
والعمال المتفقين على العمل بدينار واحد في اليوم (متي
20 : 1 – 16). والوزنات التي وزعها صاحب المال على عبيده فأعطى لواحد خمس وزنات
وللآخر وزنتين وللثالث وزنة واحدة. فكل الأشخاص الذين نلقاهم في هذه الأمثال
نراهم يهتمون بالمال وبيحثون عن الكسب ثم يؤدون حساباً، بل نجد جملة صغيرة في
مثل الوزنات لها دلالتها العميقة، إذ نسمع صاحب المال يقرع العبد الثالث
قائلاً: "كان عليك أن تضع مالي عند الصيارفة، وكنت في عودتي أسترده مع الفائدة"
(متي 25: 14 – 30). متي إذاً كان يعرف قيمة المال وطرق التصرف به، ولذلك كان
يعير انتباهه إلى الملاحظات الخاصة بهذا الموضوع عندما كانت تصدر من يسوع. وليس
بين الانجيليين من هو أكثر دقة من متي في أمور المال، فهو الوحيد الذي يستعمل
الالفاظ الصحيحة بهذا المجال: الدرهم (متي 17 : 24)، الأستار (متي 17 : 27)،
ونقد الجزية (متي 22 : 19) وهو يذكر عشر أنواع من النقود، بينما يذكر مرقس خمسة
ولوقا ستة.
ولكي تكون لنا فكرة عن شخصية كاتب انجيل متي "كنموذج
الانسان" نعود إلى كتاب الأستاذ أ كوروس وما يقوله في تحليل شخصية متي: "أن
مؤلف انجيل متي هو إنسان دقيق جداً، وذهنيته واقعية، يضع دائماً حداً فاصلاً
بينه وبين موضوعه، بارد الطبع. وهو نشيط في عمله، فقد جمع معلومات كثيرة واهتم
بتنظيمها بدقة، لا يظهر نفسه حساساً، أي لا يتأثر بأي شيء ولا يقتنع بسهولة ولا
يعمل تلقائياً، بل يتحرك بحذر بعد أن يعد نفسه للعمل. ومختصر القول: أنه أقرب
إلى الطبع البارد، نشط وعنيد ومثابر بنظام ودقة. أنه من صنف أؤلئك الرجال الذين
تلقاهم عادة في دوائر تحرير العقود أو ضريبة الدخل أو المصارف. "نكتفي هنا
بهذا، وإذا سنحت الفرصة لنا لنعود مرة أخرى إلى متي، ونتكلم عن:-
متي في التقليد.
أصل انجيل متي.
موقف المساندين لوجود انجيل متي الآرامي.
موقف الرافضين لوجود انجيل متي الآرامي.
الكتب المنحولة المنسوبة إلى متي، مثل أصل الطوباوية
مريم العذراء وطفولة المخلص، المنحول.
وكتاب أعمال متي المنحول.
لماذا خلقنا الله؟
الأركذياقون د. خوشابا كوركيس:
يقول الله على لسان نبييه
داود المرنم "أيها
الرب، كنت لنا ملجأ جيلاً فجيلاً. من قبل أن ولدت الجبال،
وكونت الأرض والدنيا من الأزل وللأبد أنت الرب"
[1].
ويقول ولده سليمان الحكيم
في كتاب الأمثال "قبل
أن غرست الجبال وقبل التلال ولدت، إذ لم يكن قد صنع الأرض
والحقول وأول عناصر العالم"[2].
يظهر من الآيتين الآنفتي
الذكر أن الخطة الأبدية لخلق الكون (الحالي
والمستقبل)، والإنسان والتاريخ
الماضي والحاضر والمستقبل، كانت موجودة في فكر الله. بالرغم
من وجود بداية
زمنية لخلق آدم والمخلوقات الأخرى، إلا أن خلقها في فكر الله ليس له بداية. لكي
لا نعتقد بأن هناك أي تغيير يطرأ لفكر الله عندما
بدأ بخلق الكون، بل أن كل شيء
خلق ويخلق في المستقبل والسماء والأرض الجديدة، موجود في
فكر الله غير
المتغيير. كما أن الوليد المحبول به في رحم أمه، لا يعرف الأم التي تحمله ولا
يشعر بوالده الذي كان سبب الحبل به، هكذا أيضاً آدم
عندما كان في فكر الله
الخالق كان لا يدركه، إلى أن ولد فعرف نفسه أنه مخلوق ولم
يبقى عند هذه المعرفة
إلا ست ساعات وطرأ عليه تغيير، حيث تغير من المعرفة إلى عدم
المعرفة، ومن الخير
إلى الشر. لذلك كانت صورة آدم في فكر الله قبل أن يخلق
الكون كما يقول المزمور
أعلاه. لذلك فأن آدم أقدم من الجبال والمخلوقات الأخرى من
حيث وجوده في فكر
الله، لكن الجبال والمخلوقات الأخرى قبله من حيث الولادة
[3].
لا يهتم العهد القديم
بالخلق بغية إرضاء حب إستطلاع الإنسان لحل مشكلة أصل
العالم، فهو يرى فيه قبل
كل شيء نقطة إنطلاق لقصد الله ولتاريخ الخلاص، وأول أعمال
الله العظيمة التي
تمتد سلسلتها في تاريخ إسرائيل. وهناك علاقة بين القوة
الخالقة والهيمنة على
التاريخ فبصفته خالق العالم وسيده، يستطيع الله أن يختار
نبوخذنصر (إرميا 27 : 4 – 7)
أو كورش (إشعيا 45 : 12 – 13) لتحقيق مقاصده في هذا العالم.
لا تتم الأحداث إلا بأمره
تعالى، فهو، بكل معنى الكلمة، يخلقها (إشعيا 48 : 6
– 7). وهذا ينطبق بصورة
خاصة على الأحداث البارزة التي حددت مجرى مصير إسرائيل، مثل
إختيار شعب الله
الذي خلقه الرب وهديه (إشعيا 43 : 1 – 7 )، والخلاص الذي
قدمه له في الخروج من
أرض مصر (راجع 43: 16 – 19). ولهذا يضم أصحاب المزامير هذه
الأحداث، في
تأملاتهم في التاريخ المقدس، إلى عجائب الخلق، ليرسموا بها صورة كاملة لمعجزات
الله (مزمور 135: 5 – 12 ، 136 : 4 – 26). وإذ يدخل
فعل الخلق في مثل هذا
الإطار، فهو ينتقى تماماً من التنصورات الآسطورية التي كانت
تشوهه في الشرق
القديم. ومنذئذ، يستطيع المؤلفون الملهمون، لكي يكسوه ثوباً
شعرياً، أن
يستعينوا بدون خزف، بصور الأساطير القديمة التي قد فقدت قدرتها على الأذى.
فيصبح الخالق بطلاً في معركة رهيبة ضد الوحوش التي
تمثل الخواء: "رهب أو
لاوياثان"
فقد سحق الله (مزمور 89 : 11) هذه الوحوش، وطعنها (إشعيا 51
: 9 ، أيوب 26
: 13) وهمشها (مزمور 74 : 13) لم يدمرها نهائياً بل تركها غافية (أيوب
3 : 8) ، مقيدة (أيوب 7 : 12 ، 9 : 13). مبعدة في
البحار (مزمور 104 : 26)،
وكان الخلق لله بمثابة النصر الأول. وفي التاريخ،
تمتد سلسلة المعارك التي قد
تصفها الصور نفسها: ألا يتضمن الخروج نصراً جديداً على وحش
الغمر العظيم (إشعيا 51 : 10)؟
وهكذا نجد دائماً، عن طريق الرموز، تمثل الأحداث التاريخية العجيبة
ذاتها لعمل الله الأصلي الأعظم.
قد يكون معنى "الخلق"
كل
المخلوقات (رومية 8 : 19)، أو فعل الخلق ذاته (مرقس 10 : 6)
ومعنى الخلق هو
إبداع الأشياء التي لم يكن لها وجود. والفاعل في الفعل
"خلق"
هو الله دائماً.
فالله خلق السموات والأرض. (تك 1 : 1) والحياة المائية
والهوائية (عدد 21) والإنسان
(عدد 27)، والكواكب (إشعيا 40 : 26).
والريح (عاموس 4 : 13) وهو الذي
خلق القلب النقي الطاهر (مزمور 51 : 10). والرب أمر
فخلقت السموات بكل أجنادها
وملائكتها، والشمس والقمر والنجوم والمياه التي فوق السموات
(مزمور 148 : 5) لقد تكلم
فصنع كل شيء، وهو القدير العزيز الحكيم. عليه تتوقف حياة كل
المخلوقات، وبيده يرعاها ويصونها، وإختفاء وجهه عنها
يهلكها، ونسمته المبدعة
تجدد الحياة على الأرض (مزمور 104 : 27 – 30). وقد خلق الله
العالمين "بالكلمة"
الذي هو "الأبن"
(يوحنا 1 : 3 وأفسس 3 : 9 وكولوسي 1 : 16 وعبرانيين
1 : 2). وتنقسم قصة الخليقة
إلى جزئين، يكمل أحدهم الآخر. ففي الجزء الأول (تك 1 : 1
– 2 :3) يستعمل اسم الجلالة
"الله".
وفي الثاني (تك 2 : 4 – 25) "الرب
الإله" يشير الجزء الأول إلى
خليقة كل الكون، أما الثاني فإلى خليقة الإنسان، وهو
فاتحة قصة سقوط الإنسان وفدائه. وفي سائر الأحوال،
الله هو المسيطر على شؤون
العالم والبشر، وكل الأشياء مرتبة بحكمة، وتهدف إلى قصد
حكيم في الكون ونحو
الإنسان.
أما الأيام الستة فتشير
إلى ستة أعمال في مدد إلهية تنتهي بالراحة الإلهية
(تك 2 : 2 - 3) وكان العمل
الأول خلق النور المنتشر، والعمل الثاني تنظيم للسموات،
وفصلها عن سطح الأرض
بواسطة الجلد. والعمل الثالث فصل المياه عن اليابسة وخلق
النبات. والعمل الرابع
إظهار نور الشمس والكواكب عن طريق تكسير الأبخرة. والعمل
الخامس خلق الحياة
الحيوانية الدنيا في الماء والهواء. والعمل السادس خلق
الحيوانات البرية
والإنسان الذي خلق على صورة الله. وفي اليوم السابع استراح
الله من عمله وبدأ
يمارس وظيفة "الحارس"
المدبر فبارك ما خلقه، وعين للإنسان يوم راحة في
الاسبوع لخير
النفس والجسد.
ويعتقد بعض المفسرين أن
لفظة "يوم"
لا تعتبر بالضرورة مدة أربع وعشرين ساعة، ويقولون
أنها بالأرجح تشير
إلى مدة جيولوجية طويلة الأمد. ولتأييد رأيهم يقولون أنه
كثيراً ما استعملت
لفظة "يوم"
في الكتاب المقدس للدلالة على مدة أكثر من يوم شمسي،
كيوم الأشرار،
ويوم النقمة، ويوم الدينونة، ويوم الخلاص وألف سنة في عيني الرب كيوم واحد
(مزمور 90 : 4 و 2 بطرس 3 : 8).
ومما هو جدير بالذكر في
فهم قصة الخلق كما وردت في سفر التكوين هو أن الله
خلق الكون ولم يتركه لذاته
ولشأنه كما يزعم بعض الفلاسفة. أن قوته لا زالت عاملة في
الكون خالقة مسيرة
وحافظة. ثم أن الكتاب المقدس يعلمنا شيئاً آخر من عمل الله
في الخلق، فمكانة
الله في الخلق وفق تعليم الكتاب المقدس تختلف عن فكرة
أرسطوطاليس الذي يتحدث عن
العلة الأولى، وكأن لا اتصال بين الله وبين الخليقة سوى عن
طريق سلسلة من العلل
والمعلولات. فإن الكون وما فيه من صنع الباري اليوم كما كان
يوم أبدعه أولاً. فهو الكل
وفي الكل كما يناقض تعليم أرسطوطاليس عن أزلية المادة إذ أن الكتاب
المقدس يعلمنا بأن للمادة بداية. ثم أن الكتاب
المقدس في تعليمه عن الخلق يناقض
الحلوليين الذين لا يفرقون بين الخالق وخليقته بل يمزجون
بينهما فالله ليس
الخليقة وليست الخليقة الله. وقد خلق العالم بمحض حريته لا
كما يقول الغنوسيون
بأن الخلق عبارة عن إنبثاق من الله يشبه التوالد الذاتي،
فصدر عنه كضرورة لا
محيص منها. أنه مبدع الكائنات وهي في وجودها وسيرها وبقائها
وانتظامها تعتمد
عليه بما أنه الخالق والمسير والحافظ والمدبر لها ولكل ما
يتصل بها.
ومع أن مهمة الكنيسة هي
أن تعلمنا عن مكانة الله في الخلق والخليقة إلا أن
ما تعلمنا إياه لا يتناقض مع
العلم الصحيح الذي ثبتت صحته من غير شك.
ويظهر لنا الله في سفر
التكوين "شخصاً"
لا مجرد قوة كما يزعم البعض، ويتمثل لنا عاملاً في
خلق العالم وكل
ما فيه من لا شيء. واسمى أعمال الله في الخلق هو الإنسان ذروة الخليقة،
والذي خلقه من فرط محبته له، وهو يعمل في الكون وفق
نواميس وشرائع ثابتة،
وإيماننا بالله يتسامى فوق كل الفروض والنظريات العلمية.
وتؤيد لنا القصة أن
الخليقة لم تكن وليدة الصدفة، بل من تدبير إله حكيم، مدبر
عاقل، قادر على كل
شيء يتكلم فيطيعه الخلق. وقد ثبت لدى العلماء أن بعض قصة
الخليقة كما جاءت في
سفر التكوين وردت أيضاً في الآثار الآشورية في لوحات من
فخار. ولكن القصة
الآشورية مضطربة ومفككة، حافلة بأساطير الأقدمين يصعب فهم
معانيها في كثير من
المواضع. أما قصة سفر التكوين فمسلسلة ومرتبة ترتيباً
محكماً. فضلاً عن هذا فإن
القصة الآشورية تذكر عديداً من الآلهة، أما قصة التكوين
فتحدثنا عن إله واحد،
هو خالق السموات والأرض، ورب العالمين.
[1]
مزمور 90 .
[2]
أمثال 8 : 25
[3]
كتاب
النحلة
لمار
شليمون
أسقف
البصرة
وفرات
ميشان
.