في ضوء ما أعلنه قداسة أبينا البطريرك مار أدى الثاني الجزيل
الاحترام بطريرك الكنيسة الشرقية القديمة في العراق والعالم خلال إقامته قداس عيد
السعانين في كاتدرائية مريم العذراء ببغداد يوم الأحد 12 نيسان 2009 ثم في قداس
القيامة المجيدة في 19 نيسان الجاري.. عن إدراج مقترح ضمن جدول أعمال المجمع
السنهاديقي المقدس للكنيسة والمزمع عقده نهاية نيسان الحالي ببغداد، يقضي أن يكون
احتفال أبرشيات ورعيات الكنيسة الشرقية القديمة التي تعتمد التقويم الشرقي القديم
(اليولياني) بعيد الميلاد المجيد في الخامس والعشرين من كانون الأول من كل عام أي
حسب التقويم الغربي (الغريغوري).. أود أن أتوقف هنا عند هذا المقترح بمجموعة من
المحطات القصيرة التي تتبلور كلها حول مسألة أن التفاعلات والنتائج الإيجابية لهذا
المقترح في حال تم تبنيه من قبل المجمع المقدس هي بالتأكيد وفي ضوء واقع الحال على
الأرض أكثر بكثير مما قد يكون له من تداعيات سلبية، ولتوضيح هذه الحقيقة أبدأ
بالمحطة الأولى فأقول:
إن تحديد موعد الاحتفال بعيد الميلاد المجيد إنما هو أمر رمزي
تم تبنيه بعد قرون من انطلاق المسيحية، ولم يبدأ في زمن السيد المسيح له المجد، ولا
هو بالتقليد الرسولي الذي ورثته الكنيسة من الرسل والتلاميذ ولا من الآباء الأولون
في القرون الأولى للمسيحية.
فالمعروف، كما كتبنا في افتتاحية العدد 29 من مجلة الأفق
"أوبقا" أن الأعياد الربية في المسيحية سبعة: "الميلاد، الدنح، التجلي، الصليب،
القيامة، الصعود، البنطيقسطى"، وتحظى جميعها بنفس المكانة الروحية والطقسية، لكن..
وفي المتداول الشعبي والرسمي، يبرز عيدي الميلاد والقيامة كأبرز الأعياد في
المسيحية.
والمعروف أيضا أن توقيت الاحتفال بعيد الميلاد المجيد إنما
هو، كما أسلفنا، توقيت رمزي لا تاريخي، فلا أحد يعلم علم اليقين تاريخ ولادة
المخلص، والنصوص الأربعة للإنجيل قدمت بعض المعطيات عن ظروف ميلاد السيد المسيح له
المجد، لكنها لم تورد تفاصيل عن تاريخ ميلاده، ذلك لأن هذه النصوص وباقي أسفار
العهد الجديد إنما كُتبت بعد عدة عقود من زمن الميلاد، وفي ضوء القيامة المجيدة
التي كانت الأساس في الإيمان بالرسالة التي حملها الناصري.
من هنا كانت الكنيسة تحتفل في القرون الأولى بالفصح
والقيامة.. ثم الصعود والبنطيقسطى إلى حين تبلور الاحتفال بالأعياد الربية الأخرى
والذي جاء بشكل تدريجي، حتى أن الاحتفال بعيد الصليب المقدس، على سبيل المثال، بدأ
في نحو الربع الأول من القرن الرابع للميلاد بعد العثور على خشبة الصليب من قبل
الملكة هيلانة والدة الامبراطور قسطنطين.
فيما كانت بداية الاحتفال بعيد الميلاد في نحو منتصف القرن
الرابع في روما على عهد البابا يوليوس الأول حيث تم تغيير عيد "شمس البر" ذو الطابع
الوثني إلى عيد الميلاد.
وقد خضع هذا التغيير والتحديد الزماني إلى اعتبارات فلكية تتعلق
بطول وقصر النهار انطلاقا من الإيمان بأن المسيح نور العالم، هذه الاعتبارات التي
كانت وفق التطور العلمي، ولا تزال.. عرضة للتغيير المستمر والمنتظم.
المحطة الثانية: ليس التقويم بالأمر المنزّل من السماء أو
الوارد في الكتاب المقدس، إنه من وضع البشر: علماء الفلك، والآباء الأولون للكنيسة
بقدر تعلق الأمر بالتقويم الطقسي، وهو بالتالي قابل للتغيير وفق حسابات علمية أولا،
ووفق معايير تحددها رئاسة الكنيسة ومجمعها المقدس الذي يقع هذا الأمر ضمن صلاحياته
في كل تاريخ المسيحية الماضي كما في الحاضر والمستقبل (ما تربطه في الأرض يكون
مربوطا في السماء، وما تحله في الأرض يكون محلولا في السماء.. متى 16 : 19).
وهكذا تنتفي الحاجة للحديث عن تقويم غربي وتقويم شرقي، وتقليد
غربي وتقليد شرقي.. مثلما تنتفي الحاجة للتمسك بقضايا غير جوهرية موغلة في عمق
القرون الطويلة وكأن أبناء العصر الحاضر قد أصابهم الشلل وصاروا عاجزين عن التجديد
واتخاذ القرارات المهمة لا سيما عندما تكون الغاية سامية تهدف إلى التقارب ولم
الشمل وإن كان بالحد الأدنى.. بعيدا عن الشعارات التي لا تغني ولا تسمن من جوع
الشعب وعطشه إلى وحدة الصف والخطاب.
المحطة الثالثة: هذا المقترح لا يرتبط بأية دعوات مشابهة سابقة
لأصحاب القداسة من البطاركة الأجلاء الجالسين على الكراسي البطريركية لمختلف
كنائسنا المقدسة اليوم، ولا بسابقيهم من مثلثي الرحمة الراحلون، بل هو وليد ضرورات
اليوم ومقتضيات المصلحة العامة وأمور أخرى نوردها في المحطات التالية أدناه، ويأتي
بمبادرة طوعية خالصة، ولا يمس بأي شكل من الأشكال هيكلية الكنيسة واستقلاليتها
ورسوليتها وطقوسها وموروثها الكنسي ومرجعيتها العليا المتمثلة بقداسة البطريرك
وسيادة المطارنة والأساقفة الأجلاء أعضاء المجمع المقدس وباقي تسلسل رتبها إداريا
وطقسيا وقانونيا.
المحطة الرابعة: قد يقول قائل من أخوتنا المؤمنين الكرام: كان
من الأفضل أن يتم هذا الأمر ضمن اتفاق يضم مختلف الكنائس بأن يكون الاحتفال
بالميلاد المجيد حسب التقويم الجديد (الغريغوري)، وبالقيامة المجيدة حسب التقويم
القديم (اليولياني).
نحن أيضا نضم صوتنا إلى صوت من ينادي بذلك، لكن الافتراض بصعوبة
تحقيق ذلك حاليا لا يحول دون المبادرة لتحقيق جزء من هذه الأمنية على الأقل، ويكون
لباقي رعاة كنائسنا المقدسة الأجلاء النظر في مسألة توحيد الاحتفال بعيد القيامة
المجيدة أيضا.
وصحيح هو القول أن الأعياد والتذكارات تحدد في كلا التقويمين
(الشرقي والغربي) في ضوء توقيت عيد القيامة المجيدة، وقد يعتقد البعض أن تغيير
توقيت هذا العيد يتطلب بالتالي تغيير بعض الكتب الطقسية، والواقع أن لا حاجة لتغيير
هذه الكتب لأنها لا تقوم على توقيتات وتواريخ بل على أحداث ومناسبات يمكن تقديمها
أسبوعا أو أكثر وتبقى بنفس انسيابيتها، وهذا الثمن ليس بالباهض تجاه أمنية المسيح
له المجد أولا ومن ثم أمنية الشعب المؤمن بالوحدة أو التقارب حتى وإن كان من خلال
توحيد الأعياد الرئيسة.
* المحطة الخامسة: العديد من أبرشيات ورعيات الكنيسة الشرقية
القديمة في العالم تحتفل بعيد الميلاد المجيد حاليا في الخامس والعشرين من كانون
الأول أي حسب التقويم الغريغوري، وهكذا فإن إقرار هذا المقترح لن يكون بالشيء
الجديد، إنما فقط سيوحد كل أبرشيات ورعيات الكنيسة وبقرار سنهاديقي.
* المحطة السادسة: كما أن إطلاق تسمية النسطورية على الكنيسة
المشرقية كان خطأ تاريخيا ذلك لأن القديس مار نسطوريس لم يكن بطريركا لهذه الكنيسة،
وعند تعرضه للاضطهاد من قبل مناوئيه بسبب طروحاته اللاهوتية لجأ إلى هذه الكنيسة
التي كانت قد تبنت قبله بقرون نفس هذه الطروحات بشأن التجسد، هكذا هو من الأخطاء
الشائعة أن يُطلق على أتباع الكنيسة الشرقية القديمة صفة (السبعة بالشهر ـ شَوّا
بْيَرخا)، فأبناء هذه الكنيسة يحتفلون بعيد الميلاد المجيد في 25 كانون الأول حسب
التقويم القديم (اليولياني) المعتمد فيها، وقد صار اليوم يقابل تاريخ 7 كانون
الثاني بسبب التغييرات الفلكية كما أشرنا إليه أعلاه وبفارق ثلاثة عشر يوما.
* المحطة السابعة: لطالما كان المسيحيون في العراق وعدد من
بلدان المشرق عرضة للتندر والسخرية من أخوتهم أبناء الديانات الأخرى بسبب هذا
التشتت والتعددية في الاحتفال بالعيدين الرئيسين وبفارق زمني كبير لا يقتصر على يوم
أو يومين مع الإشكالات الحاصلة في مسألة العطل الرسمية وما إلى ذلك (ولا حاجة
للتفصيل في هذه النقطة وتداعياتها فهي معروفة للجميع).
* المحطة الثامنة: قد نجد من بين أبناء الكنيسة الشرقية القديمة
الكرام من يتحفظ على هذا المقترح أو يرفضه ولأسباب مختلفة منها ما قد يكون عاطفيا
ومنها ما قد يُبنى على حسابات أخرى، ونحن نحترم هذا الرأي طالما تم طرح الأسباب
والحجج المقنعة بشأنه، كما نحاول أن نفعل نحن في هذا المقال وبكل شفافية ومحبة
وتواضع، وطالما لم يكن هذا التحفظ أو الرفض مبينا على أسس قبلية أو طائفية أو من
منطلق التطرف والتعصب غير النابع من الإيمان الحقيقي وتقديم المصلحة العليا على
الخاصة، وطالما كان أيضا يحترم الرأي المقابل ويتعامل مع الأمر بواقعية اليوم
ومتطلبات المرحلة.
المحطة التاسعة: مقر رئاسة الكنيسة الشرقية القديمة يقع في
بغداد، وكذلك الحال مع رئاسة كنيستنا الكلدانية المقدسة، ولرئاسة كنيستنا المقدسة..
المشرق الآشورية وكيل بطريركي في العراق والأمر ذاته مع كنائسنا المقدسة الأخرى،
بمعنى أن كنيسة العراق والمؤمنين فيها يشكلون الأساس ومركز الثقل لباقي أبرشيات
ورعيات هذه الكنائس في بلدان الاغتراب.
ولما كانت التغيرات التي شهدها العراق في السنوات الأخيرة وما
أفرزته من تداعيات قد شملت كل مكونات الشعب العراقي الدينية والقومية والأثنية،
وحيث نال شعبنا المسيحي قسطا وافرا منها وبضمنها فيما يتعلق بالمعاناة أولا، والسعي
لإقرار حقوقه المشروعة بشقيها الديني والقومي ثانيا، فإن وحدة الصف والخطاب كانت
وستبقى ركيزة أساسية من ركائز المحافظة على الوجود والحقوق وضمان المستقبل.
ومن هنا تأتي أهمية التركيز على المشترك والبناء عليه من أجل أن
يحظى شعبنا بصورة وبنظرة أكثر احتراما وتقديرا من قبل المكونات الأخرى الدينية
والقومية في العراق.
المحطة العاشرة والأخيرة: تعمل السلطات التشريعية في العراق
حاليا والممثلة بمجلس النواب، على دراسة ومناقشة مجموعة من القوانين ومن ثم إقرارها
لاحقا، ومن بينها تلك المتعلقة بالعطل الرسمية للمناسبات الدينية والقومية، ومن ذلك
الأعياد الرئيسة للمسيحيين في العراق، وحيث أن السائد والمتعارف عليه أن الاحتفال
بعيد الميلاد في الخامس والعشرين من كانون الأول يحظى بالأغلبية العددية لدى مسيحي
العراق، يكون جميلا والحال هذه توحيده والتخلص من جزء من التشتت الذي يعيشه شعبنا
في هذا الجانب.
أخيرا: إنها دعوة إلى أخوتنا المؤمنين من أبناء الكنيسة الشرقية
القديمة، ومن ثم الآباء الكهنة الأفاضل، وتاليا أعضاء المجمع السنهاديقي المقدس
الأجلاء، إلى تبني هذا المقترح وإقراره، وسيكون ذلك نقطة مضيئة في تاريخ خدمتهم
الأبوية والرعوية وتاريخ الكنيسة الشرقية القديمة.. ومحطة مباركة على طريق التقارب،
وخطوة طيبة لتخفيف التشتت الذي يصيب شعبنا في بعض محاور حياته، فضلا عن أنه تجسيد
بسيط وإن كان في محور محدد من محاور حياتنا الإيمانية.. لصلاة يسوع له المجد لله
الآب (حتى يكونوا واحدا مثلما أنت وأنا واحد.. يوحنا 17 : 11).
* مسؤول مكتب إعلام الكنيسة الشرقية القديمة.
*
رئيس تحرير مجلة الأفق (أوبقا) الصادرة عن بطريركية الكنيسة.
|