العظة
السابعة عشرة
الزنا
"سمعتم
أنه قيل للقدماء: لا تزنِ، وأما أنا فأقول لكم: إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها
فقد زنى بها في قلبه" (مت 5: 27-28).
وبعد أن
أنهى الرب الوصية السابقة، ورفعها إلى مستوى الذات، فإنه يتقدم في الحديث وفي
الترتيب منتقلاً بشكل يتفق مع الوصية التالية، وهو هنا أيضًا يطيع الناموس.
وقد يقال،
مع ذلك فهذه ليست الثانية، بل الثالثة، لأن الأولى ليست هي "لا تقل"، بل "الرب
إلهنا رب واحد" (تث 6: 4)، لهذا فإنه أمر جدير بالاستفسار أيضًا، لماذا لم يبدأ
بتلك، ولماذا جاءت بعدها؟
ذلك لأنه
قد بدأ من هنا. ولابد أن يوسع من دائرتها ويجمعها في نفسه مع أبيه، لكن لم يحن
الوقت بعد ليعلِّم الناس مثل هذا الأمر عن نفسه. وأيضًا كان يمارس لبرهة تعليمه
الأخلاقي فقط، قاصدًا من هذا أولاً، وكذلك من معجزاته أن يقنع السامعين أنه ابن
الله.
فإن قال
على الفور: "سمعتم إنه قيل للقدماء" أو "أنا الرب إلهكم، لا يكون لكم إله غيري"
لكني أقول لكم اعبدوني مثلما تعبدونه، لو كان قال ذلك قبل أن يعمل شيئًا أو يتحدث
بشيء، لجعل الجميع يظنون إنه مجنون فهم قد وعوا أن به شيطان (يو 8: 48)، حتى بعدما
سمعوا تعليمه ورأوا معجزاته العظيمة وحتى دون أن يصرح لهم بلاهوته علنًا. فكيف لو
حاول أن يقول شيئًا من هذا القبيل قبل كل ما فعله، لقالوا فيه ما لم يقولوه قبلاً
ولظنوا فيه ما لم يظنوه.
لكن الرب
يحجز تعليمه حول موضوعات بعينها في الوقت المناسب، ليجعل تعليمه مقبولاً من الجميع.
لهذا السبب فإنه قد تجاوزها بسرعة، وبعد أن كان يؤسس تعاليمه بمعجزاته وبتعليمه
الفائق، بدأ فيما بعد يكشفها بالكلمات أيضًا، وكشف عن الأسرار في الحاضر باستعلان
معجزاته وطريقة تعليمه ذاتها، وهكذا وفي حين حسن وبالتدريج وبشكل هادئ. وبدأ يشرح
القوانين الجديدة والتي صاحبتها تصويبات الناموس بسلطان، ليقود سامعيه ويرشدهم
بالتدريج إلى عمق تعليمه إن كانوا منتبهين ومتفهمين لما يقول. لكن الكتاب يقول:
"كان يعلمهم كمن له سلطان، وليس كالكتبة" (مت 7: 28)
2.
وبسلطان عظيم يليق بمشرِّع الناموس يقدم الرب الشهوة؛ فهي التي تسيطر على جوانحنا
الطبيعة وبقوة، وهي السبب في آلامنا التي تخص جنسنا البشري كله. وها هو يصدر بشأنها
أوامره الحازمة والصارمة، فإنه لم يقل لعقوبة الزاني وحسب، بل ما يفعله مع القاتل،
يفعله هنا بالمثل في عقاب النظرة الشهوانية غير العفيفة، ليعلمكم أن لديه من
التعليم ما هو أكثر من الكتبة في أي موضع من مواضع التعليم. ولهذا يقول: "من ينظر
إلى امرأة ليشتهيها، فقد زنى بها في قلبه". أي كل من يجعل شغله الشاغل الالتفات إلى
الأجساد المثيرة ويتصيد الملامح الجميلة،(الجملة ناقصة المعنى) لأن المسيح جاء
ليحرر النفس مع الجسد من الأعمال الشريرة، ولأننا نقبل نعمة الروح القدس في القلب،
فإن الرب يطهر قلوبنا أولاً. ورب سائلٍ، "كيف نتحرر من الشهوة؟"
أجيب
أولاً، بالإرادة تموت الشهوة فينا أو تبقى خاملة بلا نشاط. والمسيح لا ينتزع الشهوة
منا تمامًا، بل تلك الميول الشهوانية التي تثيرها النظرات، لأن من ينشغل برؤية
المفاتن المثيرة هو الذي يوقد أتون الشهوة الجسدية فيقع أسيرًا لها، وسرعان ما
تتحول الشهوة فيه إلى حيز التنفيذ. لهذا لم يقل: كل من يشتهي ليرتكب الزنا، بل كل
من نظر بشهوة.
وفي حالة
الغضب تمييزًا خاصًا قائلاً: "بلا سبب" و"باطلاً" لكن الرب هنا يستأصل الشهوة مرة
وإلى الأبد. ومن المعروف يقينًا أن الغضب والشهوة من الصفات الطبيعية للإنسان،
وكلاهما موضوع فينا للمنفعة: فبالغضب نطارد الشر ونقوِّم السالكين بعدم استقامة،
وبالشهوة ننجب نسلاً لنحفظ جنسنا البشري من الأمور الفائقة العظيمة، وتحتاج إلى كل
اهتمامنا وإدراكنا. فالرب لم يقل ببساطة "كل من يشتهي" لأنه من الممكن للإنسان أن
يشتهي حتى لو كان وحيدًا في الجبال، بل قال: "كل من ينظر بشهوة" أي ذلك الذي يشعل
الشهوة في داخله، ذلك الشخص الذي لا يضطره أحد إلى ذلك، بل يأتي بالوحش الكاسر إلى
فكره الذي كان هادئ من قبل، فليس من طبيعة الإنسان أن تهيِّج الأفكار، بل من تورط
النفس في الشهوة الردية. وهذا ما يؤكده الكتاب المقدس في العهد القديم أولاً
قائلاً: "لا تشته جمال امرأة قريبك" (جا 9: 8).
ولئلا
يقول قائل: ماذا لو اشتهيت دون أن أقع في الأسر؟ إن الرب يعاقب النظرة الردية لئلا
تقع أنت في الخطية، وأنت تظن أنك في مأمن منها.
ورُبّ
قائل آخر: "ماذا لو نظرت واشتهيت فعلاً، لكن دون أن أفعل شرًا؟" حتى إن فعلت ذلك،
فأنت محسوب من الزناة، لأن مشرِّع الناموس يقول ذلك، وليس من حقك أن تطرح أية أسئلة
أخرى، لأنك إن نظرت مرة أو مرتين أو ثلاث لاستطعت أن تضبط نفسك، لكنك إن كنت تفعل
ما تفعله باستمرار وتُشعل أتون الشهوة فإنك ساقط لا محالة؛ لأنك لا تفوق طبيعة
البشر فأنت منهم. ونحن إذا رأينا طفلاً يمسك سكينًا، نضربه أو ننتهره حتى لو لم
يؤذي نفسه بها، ونمنعه من أن يكرر ذلك مرة أخرى أبدًا. هكذا يفعل الله معنا، إذ
ينتزع منا النظرة الردية، حتى قبل الفعل، لئلا نسقط في أي وقت؛ لأن من يشعل مرة
لهيب الشهوة، حتى وإن غابت عنه المرأة التي نظر إليها، فإنه يصنع في عقله خيالات
مستمرة لأمور مخزية، ينتقل بسببها إلى ذات الفعل، لهذا ينزع السيد المسيح الفكر
الذي يحتضنه القلب.
فما القول
فيمن يعيشون مع عذارى ويشاطرونهن المسكن؟ ألا يكونوا بموجب سلطان هذا القانون
مذنبين آلاف المرات بالزنا، فهم يرونهن كل يوم وينظرون إليهن بشهوة، لهذا السبب فإن
أيوب المبارك (أي 31: 1) يرسي قانون منذ البداية ليسد كل جوانب التحديق في العذارى،
لأن جهاد النفس ضد النظر أمر عظيم، إذ يحرم الإنسان نفسه من مصدر اللذة، ونحن لا
نجني مسرة أبدًا من النظر، بل نقع في خطأ تزايد الرغبة، فنجعل خصمنا أقوى، ونوفر
للشيطان مجالات أوسع ولا نقوى على طرده، إذ أتينا به إلى عمق أعماق كياننا الداخلي،
وتركنا له عقلنا مفتوحًا على مصراعيه.
لهذا يقول
الرب يسوع: "لا تزْن بعينك ولا تقترف إثمًا بعقلك"، بل النظرة الشهوانية، لأنه لو
لم يكن يعني ذلك، لقال ببساطة: "من نظر إلى امرأة" واكتفى بهذا القول، لكنه أضاف
"ليشتهيها" أي كل من ينظر ليمتِّع نظره؛ لأن الله لم يخلق عينيك لهذا الغرض أبدًا،
أي لكي تكون سببًا في الزنا، بل لتعاين بها مخلوقاته وتُمجد الخالق. ومثلما يشعر
الإنسان بالغضب عشوائيًا دون مقصد، هكذا يمكنه أن ينظر عشوائيًا وبلا تعمد، وهذا
عكس ما يفعله حين ينظر بشهوة. فإن كنت ترغب في النظر للمتعة، انظر إلى امرأتك –
خاصتك – وأحببها على الدوام، فما من ناموس أو قانون يحرِّم عليك ذلك. لكن إن كنت
تلهث في فضول خلف محاسن الأخريات، فإنك تؤذي زوجتك، لا تدع عينيك تتجولان في كل
مكان، وتؤذي مشاعر من ينظر إليها بشهوة. إذ تتلامس معها على خلاف الناموس. حتى وإن
لم تلمسها باليد، فقد تحرشت بها بعينك (حرفيًا: عانقتها وقبلتها) (caressed)، لهذا
يحُسب ما تفعله زنا. وعاقبة هذا الجرم الفادح ليست هينة؛ إذ يمتلئ صاحب هذا الأمر
بالاضطراب والانزعاج ويسقط في دوامة تجربة شديدة، ويصير ألمه عنيفًا، ولا شيء من
قيود العالم وسجونه أقسى من قيود العقل. وحتى إن مضت التي أطلقت سهم الشهوة
الأليمة، يبقى الجرح ولا يزول. أو بالحري ليست هي التي أطلقت السهم، بل أنت الذي
أصبت نفسك بجرح مميت – نظرتك الشهوانية غير العفيفة - أقول هذا لأعفي السيدات
المحتشمات من المسؤولية.
لأنه من
المؤكد أن إحدى النسوة قد تخرج لتلفت الأنظار والعيون إليها، فتسبب للناس في الطريق
عثرة السقوط في النظر، حتى وإن لم تصدم المارين في الطريق، فإنها تسبب في إنزال
أقصى العقوبة بهم، لأنها خلطت السم وأعدت الشراب المسموم، وحتى إن لم تقدمه في قدح،
أو بالأحرى كانت قد قدمت الكأس المسمم ولكنها لم تجد من يشرب من يدها.
3. ورُبّ
قائل: "لماذا لم يتحدث مع النساء أيضًا".
نقول رغم
أنه كان يخاطب الرجال فقط، حول قوانين مطروحة وشائعة للجميع، إلا إنه عند مخاطبته
للرأس، يجعل وصاياه عامة لكل الجسد – إذ خلق الرجل والمرأة وجعلهما كيانًا واحدًا
ولا يمكن التمييز بينهما في أي مكان – لكن هذا لا يمنع أن الرب وبخ النساء أيضًا،
كما في إشعياء (إش 3: 16) حيث يقول الكثير ضدهن، ساخرًا من ملابسهن ومظهرهن وطريقة
مشيهن، وثيابهن المذيلة والتي يجرجونها خلفهن على الأرض، وأقوالهن المتراقصة
ورقابهن الممدودة.
اسمعوا
أيضًا الطوباوي بولس (أي 2: 9) وهو يضع عدة قوانين حول الملابس والحُليّ ومصوغات
الذهب وتسريحة الشعر وصبغته، وأسلوب الحياة المرفَّهة وأشياء أخرى كثيرة من هذا
القبيل، ليوبخ خبث النساء بعنف (قابل تي 2: 3–5).
السيد
المسيح أيضًا ومما يلي من أقوال، يقصد نفس القصد ولكن بشكل خفي لأنه حين يقول:
"اِقلع العين التي تعثرك، واَلقها عنك" إنما يدلل على غضبه ضدهن، أي ضد بعضهن ممن
يعثرن الرجال. ولهذا يضيف أيضًا "فإن كانت عينيك اليمنى تعثرك، فاقلعها والقها عنك"
(مت 5: 29).
ورُبّ
قائل: ماذا لو كانت قريبتي، ماذا لو كانت تخصني بأي شكل ما؟ أقول لهذا وضع الرب هذه
الوصايا والأوامر، فهو لا يتحدث هنا عن الأعضاء الجسدية (الأطراف مثلاً)، حاشا لأنه
لم يذكر أيضًا أن جسدنا ملوم لأي سبب من الأسباب، بل يضع الفكر الشرير موضع
الاتهام. لأنه ليست العين هي التي ترى، بل الفكر والعقل. وكثيرًا ما يلتفت كياننا
كله إلى الشيء المرغوب، أما عيوننا فلا ترى إلا ما هو مائل أمامنا. ولو كان السيد
المسيح يتحدث عن أعضاء الجسد، لما ذكر ذلك عن عين واحدة، ولا عن العين اليمنى فقط،
بل عن العينين، لأن من يتأذى بعينه اليمنى، لابد وأن يتضرر أيضًا بعينه اليسرى.
فلماذا ذكر العين اليمنى، ثم اليد؟ ليريكم أن حديثه ليس عن الأعضاء أو الأطراف، بل
عن القريبين منا، وكأنه يقول: "إن كنت تحب شخصًا ما - وكأنه محل عينك اليمنى- وإن
كان ذا قيمه بالنسبة لك – حتى أنك تحسبه محل يدك - لكنه يؤذي نفسك، فإنك حتى تقطعه.
وتأملوا تأكيده للأمر إذ لم يقل "ابتعد عنه"، بل وحتى يؤكد على الانفصال الكامل عنه
يقول "اقطعه" (pluck it out)، "والقه عنك". مظهرًا أن الأمر حاسم وبتار، لكنه يظهر
الربح من جهة أخرى، سواء جاءنا من الصالح أو الشرير – مستمرًا في تقديم الصورة
المجازية - (الميتافور) إذ يقول:
"لأنه خير
لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم" (مت 5: 29-30)، فهو لا يقدر أن
يخلص نفسه وحتى يفشل في تحطميك، القِ هذا العضو عنك. فأيّ عطف هنا إذا غرق الاثنان
وهلكا معًا، بينما إذا انفصلا فإن واحد على الأقل سوف ينجو. ورُبّ قائل: لماذا
اختار بولس إذن أن يكون ملعونًا لأجل إخوته (قابل رو 9: 3)، نقول: ليس من قبيل
الخسارة يفعل ذلك، بل لأجل خلاص الآخرين. أما في الحالة الأخرى فالخسارة من نصيب
الطرفين. لهذا لم يقل الرب فقط "اقلعها" بل "القها عنك" أيضًا. حتى لا تقبل هذا
العضو فيك مرة أخرى إذا ما استمر على ما هو عليه. وهكذا تخلصه هو من حمل ثقيل وتحرر
نفسك من الهلاك.
وحتى نرى
مزيدًا من منفعة هذا القانون (الناموس) اسمحوا لي أن نجرب ما قيل بشأن الجسد ذاته -
على سبيل الافتراض أعني - أن نمنح الإنسان حرية الاختيار، بين الاحتفاظ بعينه مع
الطرح في الأتون والهلاك، وبين اقتلاع العضو الفاسد والاحتفاظ بباقي الجسد. فهو
سلوك إنسان لا يكره عينيه بقدر ما يحب باقي جسده كله.
وينطبق
نفس المثال على رجال أو نساء نحبهم أو نعرفهم، فإن كان صديقك يؤذيك بصداقته ويظل
هكذا دون علاج، فإن قطعه عنك يحررك من رداءة سلوكه. أما هو فيتحرر من أثقال عسرة
الحمل، فتتخلص من هلاكك ومن أعماله الشريرة.
فما أعظم
الناموس وما ألطفه وما أجمله وهو يعتني بكم، فما يبدو للناس قساوة يكشف عن عمق
المحبة نحو الإنسان. فليسمع هذه الأمور المسرعون إلى اللهو في المسارح كل يوم
والزناة، لأنه إن كان الناموس يوصي بقطعه عنكم، أعنى الذي يؤذينا بارتباطنا به، فما
عذر الذين يرتادون تلك الأماكن، ويجتذبون إليهم كل يوم حتى الذين لا يعرفونهم،
فيوفرون لهم فرص الهلاك بغير حصر، لهذا حرم السيد المسيح النظرة الشريرة لما يعقبها
من خطايا، ولهذا يأمر بالناموس الجديد أن نقطعها عنا ونطرحها بعيدًا. وهو الذي نطق
بأقوال المحبة التي لا تُحصى لها عدد، لتدركوا في كل وقت قوة رعايته الإلهية. وسعيه
الدائم إلى منفعتن
4. "وقيل
من طَلَّقَ امرأته فليعطها كتاب طلاقٍ. وأما أنا فأقول لكم إنَّ من طَلَّقَ امرأتهُ
إلا لعلة الزنا يجعلها تزني. ومن يتزوج مطلقةً فإنه يزني" [ع32-31]
وبعد أن
أوضح جيدًا الأمور السابقة، بدأ الرب في عرض مفهوم الزنا بشكل جديد، فقد كان هناك
ناموس قديم معمول به (تث 24: 1-4). أن من يكره امرأته لأي سبب من الأسباب (حتى لو
كان تافهًا) يمكنه أن يطلقها، وأن يأتي بزوجة أخرى إلى البيت بدلاً منها. ويأمره
الناموس أن يفعل هكذا ببساطة، بل أن يعطيها كتاب طلاق حتى لا تعود إليه أبدًا، حتى
يبقى الزواج في شكله الشرعي قائمًا، لأنه لو لم يشًرِّع الناموس ذلك، لكان من
الشرعي(الشرع) أولاً أن يطلِّقها ويرتبط بأخرى، ثم يعود فيأخذ الأولى التي طلقها،
فتعم الفوضى بشكل كبير، ويتزوج الرجال زوجات الآخرين باستمرار، ولأصبح الأمر بمثابة
زنا مباشر. لهذا يشرِّع الرب كتاب الطلاق كنوع من تلطيف الأمور، فالطلاق ليس بالأمر
الهيِّن، لكن الناس أساءوا استغلاله لشرورهم العظيمة. ولأسباب أخرى غير اللطف، أعني
أن الرب قصد أن يترك الزوج الكاره زوجته في بيته، ويطلقها حتى لا يقتلها بسبب
كراهيته لها. لأنه هكذا كان طبع اليهود الذين لم يشفقوا على الأطفال وذبحوا
الأنبياء "وسفكوا الدماء كالماء" (قابل مز 79: 3)، وهم لا يرحمون النساء بل يبطشون
بهن. لهذا يسمح السيد المسيح بالضرر الأقل ليزيل الضرر الأكبر، حتى لو لم يشرعه
الناموس الأصلي؛ إذ يقول:
"لقساوة
قلوبكم أوصى موسى أن يُعطى كتابُ طلاق" (مت 19: 8). حتى لا يذبح الرجال نساءهن في
البيوت، بل بالأحرى يطلقوهن (أيّ يسرِّحوهن بمعنى يطلِّقن سراحهن).
هكذا لا
يحرم الرب القتل فقط، بل ينزع كل مشاعر الغضب، وإلهنا يشرِّع هذا الناموس في يسر.
ويستحضر في الأذهان كلمات سابقة مؤكدًا أن أقواله ليست مناقضة لما سبقها، بل تتفق
معها وتقويها، ولا تنقضها بل تكملها. تأملوا في كل مرة يخاطب فيها الإنسان فيقول:
"من يطلق
امرأته يجعلها تزني. ومن يتزوج بمطلقة يزني" ففي الحالة الأولى ورغم أن الرجل لم
يتزوج بأخرى بعد، فإنه ملوم لمجرد الفعل إذ جعل زوجته تقترف الزنا، ويصبح من تزوج
بمطلقة (لم يطلقها زوجها شرعًا) زانيًا، لأنه أخذ زوجة لا تزال على ذمة رجل آخر!
فزوجها لم يطلقها، وحتى لا تتشبث المرأة برأيها إذا أُلقي باللائمة على الزوج الذي
يطلق. لهذا أغلق في وجهها الأبواب أمام من يقبلها في بيته. إذ يقول: "ومن يتزوجها
(أيّ التي لم تطلَّق شرعًا) يجعلها تزني". والمسيح بذلك يريد عفة المرأة حتى لو ضد
رغبتها، وحتى لا تصبح في متناول الجميع. وحتى تعي جيدًا أن عليها واجب الحفاظ على
زواجها وزوجها الذي كان من نصيبها أصلاً¬. وحتى لو كانت موجودة من بيت زوجها
ومطلقة، فإنها ولو ضد إرادتها تحاول أن تبذل أقصى ما في وسعها لأجل استمرار الزواج.
وإن لم
يكن السيد المسيح قد أفصح عن هذه الأمور كلها؛ فلأن المرأة مخلوق ضعيف رقيق قد لا
تهتم بهذه القضية بشكل كبير. ولهذا يهدد الرجال حتى يقوم من إهمالها بشكل كامل.
مثلما يكون لإنسان ابن ضال يتركه ويوبخ الذين تسببوا في ذلك، والذين منعوا الأب أن
يتصل به أو يتحدث إليه أو يوبخه؟؟، فإن تضايقتم من هذا التصرف، أرجوكم تذكروا أقوال
الرب السابقة، وكيف يطوب سامعيه. وسترون أنه من السهل على من يلتزم بكل الوصايا
الوديع والمسالم والمسكين بالروح والرحيم ألا يطلق امرأته. فمن الذي اعتاد التصالح
مع الآخرين، لا يمكن أن يتخاصم مع زوجته. وينير المسيح بصيرتنا ومداركنا حين يتطرق
إلى قضية إطلاق المرأة (أو تسريحها)، حين يقول "لا يتم هذا إلا لعلة الزنا" لأنه إذ
أوصى منذ البدء أن يحتفظ الزوج بها في بيته، لكنها إن كانت تدنس نفسها مع كثيرين،
لانتهى بها الأمر إلى الزنا. هكذا تتفق تلك الأقوال مع سابقاتها لأن من ينظر إلى
امرأة غيره بعيون عفيفة، لن يرتكب الزنا، وبذلك لن يعطي لزوج المرأة الأخرى أية
فرصة لطلاقها. بهذا يشدد الرب على هذه الجزئية دون تحفظ ويجعل من المخافة حصنًا
منيعًا، ملقيًا على الزوج خطرًا جسيمًا إن طلق امرأته. إذ يحسب مسئولاً مسئولية
شخصية عن زناها. لهذا يصحح المسيح الوضع لئلا يفتكر أحد في قوله "تقلع عينيك" بمعنى
"تتخلص من زوجتك" جاعلاً بيد الرجل أن يدعها تمضي ويطلقها. (إن كانت زانية، أو إن
كان هو زانيًا) وليس أمامه من حل آخر يلجأ الزوج إليه.
5. "أيضًا
سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث بل أوف للرب أقسامك. وأنا فأقول لكم لا تحلفوا
البتة" [ع34-33].
قبل أن
يتحدث السيد المسيح عن السرقة، تناول موضوع شهادة الزور متجاوزًا وصية "لا تسرق".
ترى لماذا يفعل ذلك؟ لأن من يسرق يحلف باطلاً في هذه المناسبة، أما من لا يعرف كيف
يشهد بالزور أو يتحدث زورًا، لا يعرف بالأكثر كيف يسرق.
لهذا
تجاوز الرب الحديث عن السرقة إلى شهادة الزور لأن منها تتولد السرقة. لكن ما معنى
"أوف للرب أقسامك" (انظر عد 30: 2، تث 23: 23) حيث نقرأ:
"إذا أقسم
رجل قسمًا، أن يلزم نفسه.. فلا ينقض كلامه"، "وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة".
وحتى يبعدهم عن القسم بالله، يقول: "لا بالسماء لأنها كرسي الله، ولا بالأرض لأنها
موطئ قدميه، ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم (قابل إش 26: 1، مز 18: 2)
مقتبسًا من الكتابات النبوية، ومشيرًا إلى أنه هو ذاته لا يناقض القدماء. والسبب في
ذلك؛ أنهم اعتادوا القسم بتلك الأشياء، والرب يعلن في نهاية الإنجيل عن هذا (مت 23:
16) ويوضح جسامة هذا الأمر لا بسبب طبيعتها الجسيمة بل بسبب علاقتها بالله. ولنتأمل
كيف تم الإعلان عنها بمثل هذا القدر من التنازل؛ إذ كان طغيان الوثنية شديدًا، وكان
لا بد أن ينفي أيّ استحقاق بالكرامة لهذه الأشياء والأوثان. لهذا يذكرها هنا لمجد
الله، لأنه لم يقل:
"لأن
السماء جميلة وبديعة وعظيمة" ولم يقل "لأن الأرض نافعة"، بل "لأن السماء عرش الله،
والأرض موطئ قدميه" هكذا يحثهم في الحالتين إلى الاتجاه نحو ربهم ثم يكمل قائلاً:
"ولا تحلف
برأسك؛ لأنك لا تقدر أن تجعل شعرةً واحدةً بيضاء أو سوداء" (مت 5: 36).
وهو هنا
لا يثير الإعجاب بالإنسان حين يذكر القسم برأسه، (وإلا صار الإنسان معبودًا)، بل
يشير إلى مجد الله وللتأكيد على أن الإنسان لا يسود حتى على نفسه، ومن ثم لا تمتلك
السيادة حتى تحلف برأسك. لأنه مثلما لا يعطي أب ابنه لآخر، هكذا لا يعطي الله عمله
الخاص به لك. فرغم أن الرأس رأسك أنت، إلا إنها مملوكة لله، وما دمت لست سيدًا على
رأسك في هذا الشأن، فلا قدرة لك على التصرف فيم لا تمتلكه، ولا في أدنى شيء آخر؛
لأن الرب لم يقل: "أنت لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة تنمو" بل يقول: "أنت لا تقدر حتى
أن تعدل من صفاتها".
ورُبّ
قائل: لكن ماذا لو أقسم إنسان قسَمًا تحت إكراه؟ إذن فليكن خوفك من الله أقوى من
الإكراه على القسَم، لأنك إن اعتدت على الأعذار، لن تنفذ وصية واحدة من وصايا الرب.
فبالنسبة لزوجتك، ستقول: ماذا لو كانت مشاكسة وعنيفة؟ وبالنسبة لعينك اليمنى ستقول:
ماذا لو كنت أحبها، حتى وأنا في النار فعلاً؟ وعن النظرة الشهوانية غير العفيفة
تقول: ماذا لو كنت لا أقوى على الامتناع عن النظر؟ وعن غضبك ضد أحد الإخوة تقول:
ماذا لو كنت متسرعًا لا أقدر على ضبط لساني؟.
وبوجه
عام تدوس هكذا على كل أقوال الرب، مع أنك لا تقدر أن تتدرج بنفس الحجم بالنسبة
لقوانين البشر ولا تقول: ماذا لو كان هذا أو ذاك هي الحالة؟ ولكن سواء أردت أو لم
ترد فإنك تقبل الملكوت، وتكون مضطرًا أن تقع تحت نيرها كلها. لأن من سمع بالبركات
السابقة، ووضع على عاتقه تنفيذ وصايا المسيح، لن يكون مُكرهًا على المعاناة من جراء
أيّ قانون عالمي؛ إذ هو يوقرها ويحترمها كلها.
"بل ليكن
كلامكم نعم نعم، لا لا. وما زاد على ذلك فهو (يأتي) من الشرير (الشيطان)" (مت 5:
37). فما الذي يزيد على "نعم" وعلى "لا" إنه القسم وليس الحنث بالقسم. لأن الحنث
بالقسم معلوم لدى الجميع، ولا يحتاج الإنسان أن يعرف أنه من الشرير. بينما ما زاد
على ذلك لا لزوم له إذ يتجاوز الحد المسموح.
ورُبّ
قائل: هل القَسم من الشرير؟ وإذا كان من الشرير فكيف يكون من الناموس؟
حسنًا،
فإنكم ستقولون نفس الشيء عن الزوجة أيضًا، كيف ما كان مسموحًا به قبلاً قد صار الآن
زنى؟ فما قولك: لقد كانت الوصايا التي قيلت قديمًا تتعلق بأناس استلموا الناموس وهم
ضعفاء. ولأنه لا يليق بالله أبدًا أن نعبده على بخار ذبيحة - مثلما لا يليق التلعثم
أو (اللثغة في النطق) بفيلسوف - لهذا يكشف الرب الآن أن هذا النوع من الأمور هو زنا
وأن القسم من الشرير، إذ تقدَّمت الآن مبادئ الفضيلة. لكن لو كانت هذه الأمور منذ
البدء هي نواميس الشرير، لما أدت إلى مثل هذا الصلاح العظيم.
أجل، فلو
لم تكن تلك الوصايا رائدة وسبَّاقة في المقام الأول، ما نلنا نحن ما نلناه الآن
بهذا القدر من السهولة. فلا تُحققوا الآن في سموها، وقد مضى على استعمالها زمان
طويل، بل حين كان الأمر يتطلب وجودها. أو بالأحرى إن أردتم ولو حتى الآن، لأن الآن
وقت مناسب، لأن ظهورها في وقت مثل هذا هو أعظم مديح لها. لأنها لو لم تقوَّم سلوكنا
جيدًا، وتهيئنا لقبول وصايا أعظم، لما ظهرت هكذا على ما هي عليه.
فالثدي
مثلاً له وظيفة هي توفير الطعام للطفل ليساعده على النمو والنضج، وهي وظيفة يكملها
على أتم وجه. لكنه وبعد أن يكبر الطفل قد يبدو بعدها بلا فائدة وقد يسخر منه
الأبوان اللذان كان يعتقدان مثلاً بضرورته للطفل! بل وقد يسيئان استخدامه ويسخران
منه كل السخرية. قد لا يكتفيان بكلمات تحقير يقولانها أمام الطفل بغية فطامه،
فيدهنانه بعقاقير مُرة ليطفئوا اشتياق الطفل إليه. هكذا يقول السيد المسيح إنها
(الوصايا) من الشرير، لا ليشير إلى أن الناموس القديم هو من الشرير، بل ليقودهم
بعيدًا عن فقرهم القديم بكل جدية. لكن اليهود عديمي الإحساس والإدراك والمتحفِّظين
في كل طرقهم، فقد دهن كل مدنهم برعب الأسر والسبي كما بعقار مر، ليجعل الدخول إليها
صعبًا. ولكن إذا فشل معهم هذا الأسلوب، ولم يروعهم بل اشتاقوا أن يعودوا إلى ما
اشتهوه مثلاً تمامًا مثلما يَهرع الطفل إلى الثدي، فقد أخفاه عنهم تمامًا. وانتزعه
منهم ليبعد معظمهم عنه (تم تدمير أورشليم عام 70م الكاتب الأصلي).
ومثلما
نفعل نحن مع قطيعنا، فالكثيرون حين يحبسون العجول، ثم يحثُّونهم في الوقت المناسب
على الفطام من اللبن القديم الذي اعتادوا على تناوله(الجملة ناقصة؟؟؟؟).
لكن لو
كان الناموس القديم ينتمي إلى الشيطان، لما أبعد الناس عن الوثنية، بل بالأحرى كان
سيلقي بهم في أحضانها فهذه هي شهوة الشيطان.
لكننا
الآن نرى التأثير العكسي للناموس القديم. فلهذا السبب عينه قد سن هذا التشريع عن
القَسم، حتى لا يحلفوا بالأوثان. (إر 4: 2). إذن لم تكن فوائد الناموس صغيرة بل
كبيرة جدًا. ولهذا كانوا يأتون إلى الطعام القوي. وهو ما اِهتم به الناموس قديمًا.
وقد يقال:
وماذا بعد، أليس القَسم من الشرير؟ بلى، إنه فعلاً من الشرير - وهو المفهوم الذي
يدركه الآن من بلغوا حد الانضباط إلى درجة عالية، لكن لم يكن الأمر كذلك قديمًا.
ورُبّ
قائل: "هل نفس الشيء يكون في وقت ما صالحًا، وفي وقت آخر شريرًا؟
كلا، بل
النقيض تمامًا هو الحق. فما الذي يمنع أن يكون الأمر صالحًا وغير صالح معًا؟ بينما
تصرخ كل الأشياء أنها كذلك. الفنون، ثمار الأرض، وكل الأشياء الأخرى؟
تأملوا
مثلاً ما يحدث لبني جنسنا، فمن الجيد أن يحملنا الوالدان ونحن صغار، لكن لا يصلح
هذا الأمر بعد ذلك. وفي مستهل حياتنا نأكل الطعام اللين طعام الصغار نتناوله بالفم
وهو صالح لنا، لكن بعد ذلك يصبح غير صالح. وفي طفولتنا من النافع والصالح أن نهرع
إلى أثداء أمهاتنا لنرضع اللبن الصحي، لكن لا يصلح هذا الأمر بعد أن نكبر، بل يضرنا
ويؤذينا.
أرأيتم
كيف تصلح أشياء لزمن ما ولا تصلح هي نفسها لزمن آخر؟
أجل؛ فثوب
الطفل يليق بك ما دمت صغيرًا، لكن حين تصبح رجلاً لا يصلح هذا الأمر، بل يصبح
مخزيًا. ثم فكروا في عكس هذا الأمر. فهل يصح أن يتناول الطفل طعام البالغين؟ هل
يمكنك أن تعطي طفلاً ثوب إنسان بالغ ليرتديه؟ إنه سيصبح محل سخرية كبيرة. وكذلك قد
يسبب السير به خطرًا محدقًا به؛ إذ قد يتعثر ويسقط. وهل نسمح لطفل أن يدير شؤوننا
العامة، وأن ينظم المرور، وأن يبذر الأرض، وأن يجني المحصول، إنه سيثير بالطبع
سخرية الناس منه.
فلماذا
أذكر هذه الأمور لكم؟ إن الجميع يسلِّم بأن القتل من اختراع الشرير. أقول إن القتل
قد وجد له فرصة مواتية مع الإنسان الذي ارتكبه فكرَّم الكهنوت؟؟ (قابل عد 25: 8)،
إذ كان القتل عمل ذاك الذي ذكرته الآن. اسمعوا ما يقوله المسيح:
"تُريدون
أن تعملوا شهوات أبيكم، وذاك كان قتالاً للناس من البدء" (مت 8: 44) ولكن فينحاس
أصبح قتالاً للناس، ولكن كتب عنه: أنه حُسب له برًا" (مز 106: 31).
وإبراهيم
أيضًا، والذي لم يصبح قتالاً للناس، بل ما هو أسوأ من ذلك بكثير أيّ قتالاً وذابحًا
لابنه، هذا قد لاقى إحسانًا كبيرًا بغير قياس. وبطرس أيضًا الذي ارتكب قتلاً
مضاعفًا. ومع ذلك فإن ما فعله كان من الروح القدس (أع 5).
دعونا إذن
لا نتبسط في فحص هذه الأمور، بل أن نضع في الاعتبار أيضًا الفترة الزمنية والأسباب
والأساليب الفكرية واختلاف الأشخاص، وكل ما يصاحب هذه الأمور لتبلغ المطلوب بدقة
أكبر؛ إذ ما من سبيل لبلوغ الحق غير هذا السبيل. ولنجتهد إن أردنا بلوغ الملكوت، أن
نتجاوز الوصايا القديمة إلى ما هو أعمق منها؛ لأننا لا يمكننا أن نملك ناصية السماء
بغير هذا الطريق، لأننا إن بلغنا فقط قامة القدماء سنقف خارج العتبة السماوية. لأنه
"إن لم يزِد بِرُّكُم على الكتبةِ والفريسيين، لن تدخلوا ملكوت السماوات" (مت 5:
20).
6. ومع
ذلك، ورغم ثقل التهديد الموضوع أمامنا، فإن البعض ورغم بعدهم عن إهمال البرّ، فإنهم
كثيرًا ما يقصرون في بلوغه. ورغم بعدهم عن الحنث باليمين كثيرًا ما يحلفون باطلاً.
ورغم بعدهم عن النظرة الشهوانية، كثيرًا ما يسقطون في ذات الشر، وكل المحرمات، بل
ويتجاسرون على ممارستها، وكأن الشعور بالذنب أمر قد ولَّى لا يتذكرونه. منتظرين
شيئًا واحدًا هو يوم العقاب؛ اليوم الذي يدفعون فيه ثمن خطيتهم عقوبةً فادحة لقاء
سوء أعمالهم. وهذا هو نصيب الذين أنهوا حياتهم في فعل الشرور فقط. ولهؤلاء عذرهم إن
يئسوا، فهم لا يتوقعون أيّ عقاب ينزل بهم! حتى وهم لا يزالون على الأرض هنا، وهي
فرصتهم لتجديد قوتهم والغلبة ونوال الإكليل في يسر.
فلا تيأس
أيها الإنسان ولا تقلع عن استعدادك الشريف الجاد، أرجوك. فما هي مشكلتك في أن تكف
عن القسم؟ هل يكلفك هذا الأمر مالاً؟ هل يكلفك عرقًا ومشقة؟ يكفي أن تتوفر الإرادة
لك وسوف يتم كل شيء. لكن إن كنتم تتذرعون لي بعاداتكم، فإنني أقول لكم لهذا السبب
عينه، إن فعل الصواب سهل عليكم.(الضمير اختلف) لأنك إن سادت عليك عادة أخرى، فقد
تمارس كل العادات: تأمل مثلاً ما يحدث وسط الإغريق في حالات كثيرة أن الأشخاص الذين
يعانون من التلعثم في الكلام يتم علاج ألسنتهم المتعثرة. بينما آخرون من الذين
اعتادوا هزّ أكتافهم بشكل غير لائق، ودائمًا ما يحركونها باستمرار هؤلاء ما إن
يضعوا سيفًا على أكتافهم حتى تنتهي تلك العادة عندهم. وإن كنتم لا تقتنعون بالكتب
المقدسة فإنني ملزم أن أفجلكم بها. وهذا ما فعله الله أيضًا مع اليهود حين قال:
"فاعبروا
جزائر كتيم وانظروا وارسلوا إلى قيدار وانتبهوا جدًا... هل بدَّلتْ أمة آلهةً وهي
ليست آلهةً" (إر 2: 10-11).
بل
ويرسلنا بالمثل إلى البهائم أو الحيوانات العجماء قائلاً في هذا الصدد: "اذهب إلى
النملة أيها الكسلان، تأمَلْ طُرُقها. واذهب إلى النحلة" (أم 6: 6-8س). وهذا هو ما
أقوله لكم الآن أيضًا.
تأملوا
فلاسفة اليونانيين وستعرفون كم من عقاب شديد نستحقه نحن الذين نعصي قوانين الله.
فهم أمام الناس ومن أجل اللياقة، يبذلون أقصى ما في وسعهم، أما أنتم فلا تبذلون نفس
السعي الدؤوب لأجل السماء. فإن كان ردكم على هذا الأمر أن " للعادة قوة عجيبة في
خداع حتى الذين يجتهدون اجتهادًا عظيمًا. أقول لكم بالمثل حتى إن كانت إلى هذه الحد
قوية في الخداع، فإنه من السهل تقويمها. لأنكم إن جعلتم في بيوتكم آخرين يراقبونكم
مثل خادمك أو زوجتك أو صديقك، لأقلعت فورًا عن العادات المذمومة؛ إذ يضغط عليك
الآخرون لمنعك من الاستمرار فيها، فإن نجحت في ذلك طيلة عشرة أيام فلن تحتاج بعدها
إلى مزيد من الوقت، بل يصبح كل شيء آمنًا عندك، ويعود من جديد وقد تأصلت فيك
العادات الجديدة الفائقة السمو.
لهذا إن
بدأت في تصحيح عادة سيئة. فحتى لو تعديت الناموس مرة أو مرتين أو حتى عشرين مرة، لا
تيأس، بل قم مرة أخرى، واستعْد نفس حماسك الأول، وسوف تنجح يقينًا. لأن الحنث
باليمين ليس من الأمور الهينة. فإن كان القسم من الشرير، فكم وكم يكون العقاب أشد
من جرَّاء القسم الزائف. هل تمتدحون قولي؟ كلا، لا تفعلوا. فأنا لا أريد أن أصفق أو
أصنع جلبة أو ضوضاء. إني أريد شيئًا واحدًا فقط: أن تنصتوا في هدوء وجدية، ثم أن
تفعلوا ما يُطلب منكم، فهذا هو الهتاف والمديح. لكن إن كنتم تمتدحون قولي دون أن
تفعلوا ما تهللون له، فإن العقاب يكون أشد وأكثر إيلامًا وقسوة. يجلب علينا الخزي
والسخرية، لأن أمور الزمان الحاضر ليست مشهدًا دراميًا في مسرحية ما، ولا أنتم
متفرجون تحدقون في بعض الممثلين مكتفين بالتصفيق وحسب. إن هذا المكان مدرسة روحية،
وهناك نهاية واحدة فقط علينا أن نسعى لتحقيقها في حينها؛ بأن ننفذ المطلوب منا
مظهرين طاعتنا بأعمالنا، لأننا حينئذٍ ننال كل ما نريده. لأننا إن توخِّينا الصدق
لأدركنا أن واقعنا يصيب الجميع باليأس. لأنني لم أكف عن إسداء النصائح لأولئك الذين
أقابلهم على انفراد، أو في العظات العامة معكم. ومع ذلك لا أرى تقدمًا ملحوظًا على
الإطلاق، بل لا تزالون متعلقين بالسلوكيات الفظة السابقة. الأمر الذي يضايق المعلم
كثيرًا ويقلقه. انظروا مثلاً بولس الرسول وهو لا يكاد يحتمل أن يؤجل معلموه دروسهم
الأولى لفترات طويلة، أو يقول لأنكم إذ كان ينبغي أن تكونوا معلِّمين لسبب طول
الزمان، تحتاجون أن يعلِّمكم أحد ما هي أركان بداءة أقوال الله (عب 5: 12).
لهذا
السبب ننوح نحن أيضًا ونبكي، فإن رأيتم أن تظلوا على حالكم فسوف أمنعكم في المستقبل
من أن تطأ أقدامكم هذه الأعتاب المقدسة، وتشتركوا في السرائر الأبدية، مثلما نفعل
مع الزناة والزانيات والقتلة. أجل لأنه من الأفضل أن نرفع صلواتنا المعتادة مع
اثنين أو ثلاثة، يحفظون نواميس الله، من أن نحشد جمعًا من العصاة والمفسدين للناس،
فيغادر الغني والعاهل الملك والذين يتشامخون عليَّ هنا، ويرفع منهم الواحد حاجبه
عاليًا.؟؟ فإن كل هذا هو بالنسبة لي بهتان وظل وحلم. لأنه ما من غني من أغنياء هذا
الدهر يتشفع لي هناك، حينما أَمْثل للحساب والمحاكمة؛ بأنني لم أصن نواميس الله
جيدًا، وفي جدية ولياقة. ولهذا فإن مثل هذه الأمور قد حطمت العجوز الممتدح (1 صم 3:
13). رغم أنه في حياته لم يكن ملامًا من أحد، ولكن لأنه تغاضى عن الدوس على نواميس
الله، طورد هو وأولاده وعوقب بأشد العقاب. فإن كان سلطان الطبيعة المطلق هكذا
عظيمًا، فعلى من يفشل في معاملة أولاده بحزم إن يتحمل هذه العقوبة الشديدة. فكم وكم
يكون إهمالنا، إذ ونحن متحررون من هذا السلطان لا نزال ندمر كل شيء بنفاقنا؟ وحتى
لا تهلكونا وتهلكوا أنفسكم أيضًا معنا، أرجوكم أن تقتنعوا بكلامنا فتقيموا حولكم
كثيرين يراقبونكم، يدبرون أحوالكم ويدعونكم لحساب أنفسكم. فتحررون ذواتكم من عادة
القسم، حتى إذا ما سلكتم بتدبير حسن، تنجحون جميعكم وبكل يسر أن تمارسوا الفضائل
الأخرى، فتنعموا بالصلاح العتيد أن يمنحه الله لكم حتى يكون لجميعنا ربح.
بنعمة
ومحبة ربنا يسوع المسيح للبشر، له المجد والقدرة الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين
كلها. آمين
--------------------------------------------------------------
لقراءة الأجزاء
السابقة اضغط هنا:
الجزء 1،
الجزء 2،
الجزء 3 |