مقدمة
"لهم فم ولا ينطقون" (مزمور 115: 5 باروك 6: 7). هذا التهكّم على
الأصنام الصامتة (1 كورنتس 12: 2) يشير إلى إحدى الخصائص التي نميّز أكثر من غيرها
الإله " الحي، كما يكشفه لنا الكتاب المقدّس: إنه يكلّم البشر، وتكمن أهمّية كلمته
في العهد القديم في دورها الإعدادي للحادث الأساسي في العهد الجديد، حيث كلمته-
"الكلمة"-يصير بشراً.
العهد القديم
أولاً: الله يكلّم البشر
إن موضوع الكلمة الإلهية، في العهد القديم، ليس موضوعاً نظرياً بحتاً، كما هي الحال
في التيارات الفكرية الأخرى (راجع " le logos " عند الفلاسفة الإسكندربين)، وإنما
هو قبل كل شيء حادث اختباري: إن الله يكلّم مباشرة أشخاصاً مختارين، وبواسطتهم
يكلّم شعبه وسائر البشر.1. تعتبر الحركة النبوية إحدى الركائز الأساسيَة في العهد
القديم: في كل عصر، يكلم الله أشخاصاً مختارين موكّلاً إليهم مهمة تبلغ كلمته.
هؤلاء البشر هم أنبياء، بالمعنى المتَسع للفظ. وقد يخاطبهم الله بطرق متنوّعة،
فيكلَم البعض عن طريق رؤى وأحلام (عدد 12: 8، راجع 1 ملوك 22: 13- 17) ويكلم البعض
الآخر خلال إلهام داخلي يصعب وصفه (2 ملوك 3: 15، إرميا 20: 7، الخ). و يكلم موسى
فماً لفم (عدد 12: 8). بل أحياناً كثيرة، لا يوضح الكتاب المقدّس إطلاقاً طريقة
تبليغ كلمته (تكوين 12: 1). ولكن ليس هذا هو جوهر الأمر فجميع هؤلاء الأنبياء
يدرءون إدراكاً واضحاً أن الله يكلّمهم، وأن كلمته تغمرهم نوعاً ما إلى حدَ الشعور
بقوة تسيطر عليهم (عاموس 7: 15 راجع 3: 8، إرميا 20: 7- 9). و بالنسبة إليهم. تعتبر
كلمة الله الحادث الأول الذي يرسم لهم معنى حياتهم، فتتدفَق الكلمة من خلالهم
بطريقة عجيبة تجعلهم يعزون مصدرها إلى عمل روح الله. إلاّ أنه، في حالات أخرى، قد
تصل إليهم الكلمة أيضاً، بواسطة طرق لا تلفت النظر، أقرب في ظاهرها إلى الوسائل
العادية التي يستخدمها البشر في علاقاتهم المتبادلة، وهي الطريقة التي تستعين بها
الحكمة الإلهية لمخاطبة قلوب البشر (أمثال 8: 1- 21 و32- 36 " حكمة 8:7) " سواء
بقصد إرشادهم في تدبير شئونهم أو في كشف الأسرار الإلهيّة لهم (دانيال 5: 11- 12
راجع تكوين 41: 39). وعلى كل حال لسنا أمام كلمة بشر، عرضة للتقلب أو الخطأ،
فالأنبياء وكتبة الحكمة على اتصال مباشر مع الله الحيّ.2. والحال أن الكلمة الإلهية
لم تُلق على صفة من الناس بمثابة تعليم سري، يتحتم عليهم أن يخفوه عن عامة البشر،
بل هي رسالة يجب تبليغها، لا إلى دائرة صغيرة من الناس، وإنما إلى الشعب الإسرائيلي
بأجمعه الذي يريد الله أن يصل إليه بواسطة حاملي كلمته. وعليه، إن اختبار كلمة الله
ليس وقفاً على عدد صغير من المتصوفين، بل إلى شعب إسرائيل كلّه مدعوّ إلى أن يعترف
باًن الله يخاطبه بواسطة مرسليه. وإذا صادفت كلمة الله في البداية إعراضاً أو
احتقاراً (راجع إرميا 36)، إلا أنها ستتجلّى أخيراً بكل جلائها بفضل علامات لا تقبل
الجدل. ففي زمن العهد الجديد، ستعترف اليهودية كلها أن الله كلم آباءنا، مرات
كثيرة، و بمختلف الوسائل (عبرانيين 1 : 1).
ثانياً: اعتبارات مختلفة للكلمة
يسسعنا أن نرى في كلمة الله اعتبارين غير منفصلين ولكن متميزين: إنها تكشف وتعمل.
1. كلمة الله نور كاشف:
لكي يجعل الله فكر الإنسان متصلاً بفكره، فهو يلقي إليه كلمته. وتتّخذ كلمته
أشكالاً كثيرة. فهي تارة شريعة وقاعدة سلوك، وطوراً تكشف عن ملئ الأشياء والأحداث،
وأخرى وعد أو تنبؤ للمستقبل. أ) يرجع تصور الكلمة الإلهية كشريعة وقاعدة سلوك إلى
نشأة إسرائيل ذاتها. ففي أثناء إبرام العهد في طور سيناء، سلم موس للشعب كل من قبل
الله ميثاقا دينياً وأخلاقياً يتلخص في " عشر كلمات " (الوصايا العشر، خروج 20: 1-
17، تثنية 5: 6- 22، راجع خروج 34: 28، تثنية 4: 13، 10: 4). وهذا التصريح
بوحدانيَة الله، المقترن بإعلان مطالبه الأساسية، كان إحدى العناصر الأولى التي
أتاحت لإسرائيل أن يدرك أن "الله يتكلم. لقد أبرزت بعض روايات الكتاب المقدس هذه
الحقيقة بالتركيز على حادث طور سيناء، مظهرة أن الله يكلم مباشرة إسرائيل باسمه من
وسط الغمام (راجع خروج 20: 1...، تثنية 4: 12). وفي الواقع، توضَح نصوص أخرى دور
موسى كوسيط (خروج 34: 10- 28). وعلى كل حاد، لقد فرضت الشريعة بصفتها كلمة إلهية.
وبهذه الصفة رأى فيها مؤلفو الحكمة وأصحاب المزامير المصدر الحقيقي للسعادة (أمثال
18 : 13، 16: 20، مزمور 119).ب) غير أنه قد اقترنت الشريعة الإلهية، منذ البداية،
بإعلان عن الله وعن عمله على هذه الأرض: "أنا يهوهِّ، إلهك، الذي أخرجك من أرض مصر"
(خروج20: 2). هذه هي الحقيقة الأساسية التي تدعم سلطة الشريعة ذاتها. فإن كان
إسرائيل شعباً موحداً بالله، فليس بفضل حكمة إنسانية، لكن لأن يهوه كلّم آباءه، ثم
كلّم موسى لكي يعرف نفسه بصفته "الرب الواحد" (خروج 3: 13- 15، راجع تثنية 4:6).
وكذلك، تلقي كلمة الله الضوء على حوادث التاريخ التي تتلاحق وتكشف عن معناها الكامن
فيها. وهي في كل واحدة من الاختبارات الوطنية الكبرى، تكشف للشعب عن مقاصد سرية
(يشوع 24: 13). ولا يرجع لهذا التعرّف على قصد الله خلال أحداث هذا العالم، لعوامل
بشرية، إنما مرجعه إلى المعرفة النبوية التي تجد امتداداً لها في تأمل الحكماء
(راجع حكمة 10: 19). وباختصار، فهو مستمدّ من كلمة الله.جـ) وأخيراً، فإن كلمة الله
تستطيع اجتياز حدود الزمان، لكي تكشف مقدماً عن المستقبل، وهي، خطوة بعد خطوة، تنير
إسرائيل بشأن المرحلة القادمة في تدبير الله (تكوين 15: 1613، خروج 3: 7- 10، يشوع
1: 1- 5، الخ). وفي النهاية، تكشف، فيما وراء مستقبل قريب قاتم، عما سيحدث في
الأزمنة، الأخيرة "، عندما يحقق الله قصده في كماله وهذا هو بالذات موضوع التنبؤ
الاسكاتولوجي. فهذه الاعتبارات الثلاثة للكلمة الإلهّية: الشريعة، والكشف، والوعد،
تسير معاً، وترتبط الواحدة بالأخرى طوال العهد القديم. وهي تتطلب، من جانب الإنسان،
جواباً سنعرض له فيما بعد.
2. كلمة الله قوة فعالة:
ولكن كلمة الله ليست رسالة يدركها العقل، وتوجّه إلى البشر فحسب، وإنما هي حقيقة
ديناميكية، قوة تحقّق حتماً الإنجازات التي يقصدها الله (يشوع 21: 5 4، 23: 14، 1
ملوك 8: 56). يبعثها الله كرسول حيّ (إشعيا 9: 8، مزمور 107: 20)، هي تجري فتنقض،
بنوع ما، على البشر، (زكريا 1: 6). يسهر الله عليها من أجل أن يحققها (إرميا 1
:12)، إنها بالفعل تحقّق دائماً سر تبشرّ به (عدد 23: 19، إشعيا 55: 10- 11)، سواء
كان الأمر يتعلّق بأحداث تاريخية أو حقائق كونية، أو بالهدف النهائي لقصد الخلاص.أ)
لم يكن هذا المفهوم الديناميكي للكلمة مجهولاً في الشرق القديم الذي كان يعطيها قوة
شبه سحرية. وقد كان هذا المفهوم في العهد القديم، ينطبق في أول الأمر على الكلمة
النبويّة، فعندما يكشف الله، مقدماً عن تخطيطه، فمن المؤكد أنه سوف يحققه. فالتاريخ
هو إنجاز لوعوده، (راجع تثنية 9: 5، 1 ملوك 2: 4، إرميا 11: 5). وتجري الحوادث
تلبية لندائه (إشعيا 44: 7- 8). وفي زمن الخروج "يقول" فتأتي الحشرات (مزمور 105:
31 و34). في آخر الأسر البابلي يقول عن أورشليم: "، مستعمرين " ويقول عن كورش: "
أنت راعيَ " (إشعيا 44: 26 و28).ب) ولكن إن كان هذا شأن التاريخ ، فلا شك أن
الخليقة بأسرها تطيع أيضاً كلمة الله إذ إنه ينبغي أن نتصوّر العمل الأصلي للخالق
صادراً بقوة كلمته: "قال، فكان الخلق " (مزمور 33 : 6 - 9، راجع تكوين ، مراثي 3:
37،يهوديت 16 :14، حكمة 9: 1، سيراخ 42: 15). ومنذ ذلك الحين، تظل هذه الكلمة ذاتها
عاملة في الكون، تضبط النيّرات (إشعيا 40: 26)، ومياه الغمر (إشعيا 44: 27)، وجميع
ظواهر الطبيعة (مزمور 07 1: 25، 147: 15 - 18 ، أيوب 37: 5- 13، سيراخ 39: 17 و31).
وهي، أفضل من الأغذية الأرضية، مثل المن " السماوي. تحفظ حياة المؤمنين بالله (حكمة
16: 26، راجع تثنية 8: 3 في الترجمة السبعينيَة).جـ) وهذه الفاعليّة التي ندركها في
أعمال الخلق وفي حوادث التاريخ ستتحقق بلا شك بالنسبة إلى الأقوال النبوية الخاصة
بالخلاص المرتبط بالأزمنة الأخيرة. إذ إن كلمة الله تبقى إلى الأبد (إشعيا 40: 8).
لأجل ذلك، من جيل إلى جيل، يجمع شعب الله بتقوى وورع كل هذه الكلمات التي ترمم له
مستقبله مقدّماً. وليس من حادث يستنفد مرماها، ما دامت لم تأت بعد " الأزمنة
الأخيرة " (راجع دانيال 9).
ثالثاً: موت الإنسان أمام كلمة الله
إن كلمة الله إذاً واقع لا يجوز الإنسان أن يظلّ سلبيّاً إزاءه. ويمارس الرسول،
الناطق بالكلمة، خدمة ذات مسئوليات جسيمة. وعلى المستمع إلى الكلمة أن يتّخذ موقفاً
يحدد بموجبه مصيره.1. إن خدمة الكلمة في العهد القديم لا تعود مصدراً لمباهج روحية
بل بالعكس، يتعرض كل نبي للمقاومة وللاضطهادات. حقاً، إن الله يضع على فم النبي
كلماته بالذات، ويمنحه قوة كافية ليتولّى تبليغ الرسالة المعهودة إليه، دون خشية
(إرميا 1: 106). ولكن مقابل ذلك، يحمل النبي المسئولية أمام الله عن هذه المهمة
التي يتوقف عيها مصير البشر (حزقيال 3: 16- 21 " 33: 1 - 9) وفي الواقع إذا حاول
النبي أن يتهرب منها، يستطيع الله أن يجبره على العودة إليها ، كما تشعرنا بذلك قصة
يونان (يونان 1، 3). ولكن في أكثر الأحيان، يؤدي النبي مهمته على حساب راحته مع
الاستعداد للتضحية بحياته إذا اقتضى الأمر. وتعتبر هذه الأمانة" البطولية مصدراً
عميقاً له (إرميا 15: 16- 17)، وواجباً قاسياً لا يدرك له أجر مباشر (1 ملوك 19: 14
) .2. قبول الكلمة: أما المستمعون إلى الكلمة، فيجب عليهم أن يستعدَوا لقبرها في
قلوبهم بثقة وتسليم. فمن حيث إن الكلمة كشف وقاعدة سلوك، فهي نور لهم (مزمور 119:
105)، ومن حيث إنها وعد توفر لهم ضماناً للمستقبل. وأيا كان الشخص الذي يبلَغها، إن
كان موسى أو نبيّ آخر، ينبغي إذن الاستماع إليه (تثنية 6: 3، 18: 15، إشعيا 1: 10،
إرميا 11: 3 و 6) سواء كان ليحفظها في القلب (تثنية 6: 6، 30: 14) أو لتطبيقها في
الحياة (تثنية 3:6، مزمور 119: 9 و 17 و 101)، أو للاعتماد عليها ووضع الرجاء فيها
(مزمور 119: 42 و 74، و 81 الخ، 130: 5). فإجابة الإنسان على الكلمة الإلهيّة تشكّل
إذن موقفاً داخلياً متشعّباً يشمل جميع نواحي الحياة الفائقة الطبيعة: الإيمان، ما
دام أن الكلمة كشف عن الإله الحي، وكشف عن مقاصده، ثم الرجاءّ، ما دامت وعداً
بالسعادة، وأخيراً المحبة"، ما دامت قاعدة سلوك (راجع تثنية 6: 4- 6).
رابعاً: تجسيد كلمة الله
ليست الكلمة الإلهيّة عنصراً ضمن العناصر الأخرى في تدبير العهد القديم فحسب، وإنما
تسود هذا التدبير بأجمعه، فتعطي للتاريخ معنى، بصفتها خالقة له، وتبعث عند البشر
حياة الإيمان باعتبارها رسالة مقدمة إليهم. ولذا فليس من العجيب أن تؤدّي هذه
الأهمّية إلى تجسيد الكلمة، كما هي الحال بالنسبة للحكمة ولروح الله. وهذا ما نراه
عندما ينسب للكلمة عمل الوحي (مزمور 89)، وخاصة تقدم لنا الكلمة كعاملة نشيطة
منفّذة لأوامر الله (مزمور 147: 15، 107: 20، إشعيا 55: 11، حكمة 18: 14- 16).
وخلال هذه النصوص نستشف عمل الكلمة الإلهي في هذه الدنيا، حتى من قبل أن يكشف العهد
الجديد ذلك للبشر كشفاً تاماً.
العهد الجديد
تعيد بعض نصوص العهد الجديد هذا التعليم بخصوص كلمة الله إلى مفهوم العهد القديم
نفسه (راجع متى 15: 6). مثلاً، تؤمن العذراء مريم بالكلمة التي ينقلها إليها الملاك
(لوقا 1: 37-45) وصارت الكلمة إلى يوحنا المعمدان كما كانت توجه قديما إلى الأنبياء
(لوقا 3: 2) ولكن في أغلب الأحيان، يتركّز منذ الآن سر الكلمة حول شخص يسوع المسيح.
أولاً: كلمة
الله، وكلمة يسوع
1. الكلمة تعمل وتكشف:
لم يرد، في أي مكان، القول بأن كلمة الله وجهت إلى يسوع، كما كانوا يقولون قديماً
بالنسبة إلى الأنبياء. ومع ذلك، تقدم الأناجيل الأربعة كلمته مطابقة تماماً لما
كانت عليه كلمة الله في العهد القديم، أي بصفتها قوة تعمل ونور يكشف.أ) قوّة تعمل:
بكلمة واحدة يتمم يسوع المعجزات التي هي آيات ملكوت الله (متى 8: 8 و16، يوحنا 4
:50-53). وبكلمة واحدة أيضاً " يحدث في القلوب الثمار الروحية المقصودة من صنع
المعجزات، كما هي الحال في غفران الخطايا (متى 9: 1-7). وبكلمة، يسلّم للاثني عشر
سلطانه (متى 18: 18، يوحنا 0 2: 23) ويقيم علامات العهد الجديد (متى 26: 26 - 29).
ففيه وبه، تعمل الكلمة الخلاقة، محققة الخلاص في هذه الدنيا.ب) نور يكشف: إن يسوع
يبشر بإنجيل " الملكوت، فيلقي "كلام الله " (مرقس 4: 33) معرفاً أسرار الملكوت
بواسطة الأمثال (متى 13: 11//). يبدو ظاهرياً أنه نبيّ (يوحنا 6: 14)، أو معلّم
يعلم بالدم الله (متى 22: 16//)، لكنه في الحقيقة، يتكلّم "كمن له سلطان " (مرقس 1:
22) كما من عمق ذاته، متيقناً "أن كلامه لن يزول " (متى 24: 35//). ويوحي هذا
التصرف بسر يحاول الإنجيل الرابع الإحاطة به بعناية خاصة. إن يسوع "يتكلم بكلام
الله" (يوحنا 3: 34) ويقول "ما علمه الآب إياه " (8: 28) ولهذا "كلماته. روح وحياة"
(6: 63)أكثر من مرة،يستخدم الإنجيلي بنوع من التفخيم فعل "كلم" ( lalein )لإبراز
هذا الجانب في حياة يسوع (راجع مثلاً 3: 11، 8: 25-- 40، 15: 11، 16: 4...) إذ إن
يسوع لا يتكلّم من نفسه (12: 5049، 14: 10)، ولكن، كما قال له الآب أوّلاً (12:
50). فسرّ الكلمة المعلنة للأنبياء، هذا الذي بدأ يظهر في العهد القديم، يبلغ كماله
في شخص المسيح.
2. موقف البشر أمام الكلمة:
ولذا يتحتم على البئر أن يتخذوا موقفاً إزاء هذه "الكلمة" التي تضعهم في صلة مع
الله نفسه. وقد نقلت الأناجيل الإزائية أقوالاً ليسوع تبين بوضوح مجازفة هذا
الاختيار. في مثل الزارع، نلقى " الكلمة" التي هي إنجيل الملكوت. ويتقبلها سامعوها
المتنوعون بصور مختلفة. فالجميع " يسمعونها " ولكن لا يرى ثمرها إلا الذين يفهمونها
(متى 13: 3) أو يقبلونها (مرقس 4: 2) أو يحفظونها ( لوقا 8: 15). وكذلك في نهاية
العظة على الجبل، حيث أطل يسوع الشريعة" الجديدة، يقابل يسوع مصير الذين " يسمعون
كلامه ويعملون به "، بمصير الذين " يسمعونه بدون أن يعملوا به " (متى 24:7 و 26،
لوقا 47:6 و 49). فهنا نجد بيتاً مبنيَاً على الصخر، وهناك بيتاً مبنياً على
الرمال، وتؤدّي هذه الصور إلى توقع الدينونة: سيُدان كل إنسان بالنظر إلى موقفه من
الكلمة، "لأن من يستحي بي وبكلامي يستحي به ابن البشر متى جاء في مجد أبيه " (مرقس
8: 38//). ويعالج الإنجيل الراجع أيضاً الأفكار نفسها بإلحاح خاص. فهو يبيّن
الانقسام الذي حدث بين مستمعي يسوع بسبب كلامه (يوحنا 10: 19). فمن ناحية، فريق
يؤمن (يوحنا 2: 22، 4: 39 و 1 4 و50)، ويسمع كلامه (5: 24)، ويحفظه (8: 51- 52، 14:
23- 24، 15: 20)، ويثبت فبه (8: 31) وينبت كلام يسوع فيه (15: 7). فهؤلاء لهم
الحياة الأبدية (5: 24) ولا يرون الموت أبداً (8: 51). ومن الناحية الأخرى، هناك من
يجدون هذا الكلام عسيراً جداً (6: 6) "ولا يستطيعون الاستماع إليه " (8: 43)،
وبالتالي يرفضونه ويعرضون عن المسيح: هؤلاء سوف يحكم عليهم كلام المسيح ذاته في
اليوم الأخير (12: 48) لأنه لم يتكلّم من نفسه بل كلامه من قبل الآب (12: 49، 17:
14). وكلام الآب حق (17: 17). لذلك، فاتخاذ موقف من كلمة يسوع أو من شخصه أو من
الله هو أمر واحد. وتبعاً للموقف الذي يتخذه الإنسان، يجد نفسه داخلاً في حياة
فائقة الطبيعة قوامها الإيمان، والثقة، والمحبة أو بالعكس، مطروحاً في ظلمات العالم
الشرير.
ثانياً: كلمة الله في الكنيسة
1. عمل كلمة الله:
تظهر لنا أعمال الرسل والرسائل الرسولية كلمة الله وهي تواصل، في هذا العالم، عمل
الخلاص الذي أنشأه يسوع المسيح. على أن هذه الكلمة لا تعني سلسلة من كلام المعلَم
"، جمعها ورددها التلاميذ (راجع متى 10: 14، 1 كورنتس 7: 10 و 12 و25)، بقدر ما
تشير إلى مضمون الإنجيل نفسه، الذي تعلنه الكرازة المسيحية، ويقوم العمل الرسولي
أساساً في خدمة هذه الكلمة (أعمال 4: 29- 31" 6: 2 و 4) التي يجب التبشير بها لتدوي
في العالم بأسره (8: 4 و25، 13: 5، 18: 9- 10، 1 تيموتاوس 1: 8)، خدمة أمينة لا
تزور الرسالة (2 كورنتس 2: 17، 4: 2)، خدمة باسلة تعلنها بجرأة (أعمال 4: 31، فيلبي
1 :14). هذه " الكلمة"، هي بذاتها حقاً "قوة للخلاص "، فتنمو الكنيسة بمقدار نموها
(أعمال 6 7، 12: 24، 19: 20)، ولا شيء يستطيع أن يقيَدها ولا حتى السلاسل نفسها (2
تيموتاوس 2: 9).إنها " كلمة الخلاص" (أعمال 13: 26)، " كلمة الحياة " (فيلبي 2:
16)، الكلمة الصادقة (1 تيموتاوس 1: 15، 2 تيموتاوس 2: 11، تيطس 3: 8)، "الكلمة
الحية والفعالة (عبرانيين 4: 12). وتؤكد كل هذه التعبيرات عملها في قلوب المؤمنين.
وإليها يرجع الفضل في الولادة الجديدة التي تتمّ بالكلمة، أثناء قبول سر المعمودية
(1 بطرس 1: 23، يعقوب ا: 18، راجع أفسس 5: 26). في عمل الخلاص، نجد للكلمة نفس
الفاعلية التي قدمها العهد القديم في إطاري عمل الخلق ومجرى التاريخ، والتي نسبته
الأناجيل إلى كلمة يسوع. ولكن في الواقع، أليست هذه الكلمة التي يبشر بها الرسل هي
كلمة يسوع بالذات الذي رفع في المجد، كرب عن يمين الله، ويتكلم بواسطة رسله ويؤيَد
كلمتهم بالآيات (مرقس 16: 20).
2. موقف البشر أمام كلمة الله:
أمام هذه الكلمة الرسولية، يحدث الانقسام نفسه الذي لاحظناه من قبل، إزاء يسوع، فهي
ترفض من البعض (أعمال 13: 46، 1 بطرس 2: 8، 3: 1)، وتقبل من البعض الآخر (1
تسالونيكي 1: 6). فالذين يتقبلون الكلمة (1 تسالونيكي 2: 13)، يسمعونها (كولسي 1:
5، أفسس 1: 13)، يتقبلونها في وداعة من أجل العمل بها (يعقوب 1: 21- 22)، ويحفظونها
للخلاص (1 كورنتس 15: 2، راجع أعمال 3: 8)، ويمجدونها (أعمال 3: 48) إلى درجة أنها
تثبت فيهم (كولسي 3: 16، 1 يوحنا 1: 10، 14:2). وإذا اقتضى الحال، يتحمل هؤلاء من
أجلها المحنة والاستشهاد (أعمال 1: 9- 10، 6: 9، 20: 4)، وبفضلها يتغلبون على قوى
الشر (رؤيا 12: 12). هكذا يزدهر في التاريخ عمل الكلمة الإلهية التي بعثت في قلوب
البشر إيماناً ورجاء ومحبة.
ثالثاً: سر الكلمة الإلهي
1. والكلمة صار بشراً:
يعطي لنا القديم يوحنا مفتاح سرّ هذه " الكلمة " الإلهية، إذ يقربه أشد القرب من
ذات سر يسوع ابن الله، فبصفته ابن، يسوع هو الكلمة القائم بذاته، الكلمة الإلهي.
فمنه ينبع، آخر الأمر، كل إعلان للكلمة الإلهية، سواء كان في الخلق أو في التاريخ،
أو في إتمام الخلاص النهائي. وهكذا نستطيع أن نفهم العبارة الواردة في الرسالة إلى
العبرانيين: "بعد أن كلم الله آباءنا بلسان الأنبياء كلّمنا بلسان ابنه" (عبرانيين
1: 1 - 2). وبصفته الكلمة، كان ليسوع وجود منذ البدء لدى الله،وكان هو نفسه الله
(يوحنا 1: 1- 2). وكان هو نفسه هذه الكلمة الخلاقة التي بها أنشأ كل شيء (1: 3،
راجع عبرانيين 1: 2، مزمور 33: 6- 7)، وكان أيضاً " الكلمة المضيئة التي تشرق في
ظلام العالم لتعلن للناس وحي الله (يوحنا 1 : 4- 5). هو الذي كان، منذ العهد
القديم، يظهر بطريقة خفية، تحت مظاهر الكلمة العاملة والكاشفة. ولكنه، في ملء
الزمان، دخل هذا الكلمة أخيراً بصورة واضحة في التاريخ إذ صار بشراً (1: 14)، فقد
أصبح عندئذٍ لبني البشر واقعاً ملموساً (1 يوحنا 1: 1- 2)، حتى إننا رأينا مجده
(يوحنا 1: 14). وبهذه الطريقة، قد أنجز حتى النهاية عمله المزدوج ككاشف عن الخلاص
وصانع له. فبوصفه الابن الوحيد قد أخبر البشر عن الآب (1: 18)، وفي سبيل خلاصهم،
قدم إلى العالم النعمة والحق (1: 14 و 16- 17)، وبظهوره للعالم، احتل الكلمة مكانته
في قلب التاريخ الإنساني: قبل مجيئه كان التاريخ في انتظار تجسده، وبعد مجيئه أصبح
يصبو نحو انتصاره النهائي. فهو أيضا ًالذي سوف يظهر في معركة أخيرة من أجل إبطال
عمل القوى الشرّيرة وضمان انتصار الله نهائياً في هذا العالم (رؤيا 19: 13).
2. موقف الناس أمام الكلمة المتجسد:
بما أن المسيح هو الكلمة القائم بذاته الذي حل في الجسد، فنحن ندرك أن الموقف الذي
اتخذه الإنسان إزاء كلمته وإزاء شخصه يحدد بالفعل نفسه موقفه تجاه الله. ففي الواقع
لقد أحدث مجيئه في هذه الدنيا انقساماً بين الناس، فمن ناحية، لم تقبله الظلمات
(يوحنا 1: 5) ولم يعرفه العالم الشرير (1: 10)، وخاصته، أي شعبه بالذات، لم تقبله
(1: 11). وهذه هي الدرامة التي يقدمها الإنجيل وإلى تختم بمشهد الآلام. ولكن من جهة
أخرى، كان ثمة من "آمنوا باسمي" (1: 12): هؤلاء قد نالوا من ملئه " نعمة على نعمة
(1: 16) وقد أولاهم، وهو الابن بالطبيعة (1: 14 و 18)، أن يصبحوا أبناء الله
(12:1). وهكذا، حول " الكلمة " المتجسد، تبلورت درامة تستمر في الواقع، منذ بدأ
الله أن يكلّم البشر بواسطة أنبيائه. ويجب أن نراعي أيضاً أنه، عندما كان الأنبياء
يعلنون كلام الله، كان " الكلمة " ذاته هو الذي ينطق بلسانهم، ذات الكلمة الذي كان
عتيداً أن يصير بشراً، في آخر الأيام، حتى يخاطب مباشرة بني البشر، عندما يرسله
الآب شخصيا إلى هذا العالم. وقد حلّ الآن، محلّ هذا العمل الخفي التمهيدي، حضور
مباشر ومنظور. ولكن بالنسبة للبشر، لم تتغير المشكلة الحيوية المطروحة من جانب كلمة
الله. فمن يؤمن بكلام الله ومن يعترف بالكلمة المتجسّد ويقبله، يدخل بواسطته في
حياة فائقة الطبيعة، حياة أبناء الله (يوحنا 1: 12). ومن يرفض كلام الله وينكر
المسيح، الكلمة يبقى في ظلمات العالم ، ويجلب على ذاته دينونة الله (راجع 3: 17-
18). وهذا توقع مخيف يجب على كل إنسان أن يواجهه، إما صراحة لمن وضع أمامه إنجيل
يسوع المسيح، وإما ضمنيّاً لمن لم يصل إليه كلام الله إلا في صورة غير كاملة. يخاطب
الكلمة كل إنسان وهو ينتظر من كل إنسان جواباً. وعلى هذا الجواب يتوقف مصير الإنسان
الأبدي. |