مقدمة
كان الشعب العبري أصلاً من القبائل الرحّل. وللطريق والدرب والسبيل دورٌ أساسيٌّ في
حياتهم. فمن الطبيعي أن يستعملوا هذه الألفاظ عينها في كلامهم عن الحياة الدينية
والأدبية، وقد استمرّ استعمالها في اللغة العبريّة.
أوّلاً: طرق الله
لقد انطلق ابراهيم للرحيل على أثر نداء من الله (تكوين 12: 1- 5). ومنذئذ بدأت
مغامرة عظيمة يدور محورها على التعرّف إلى دروب الله وعلى اتّباعها. إنها طرق
محيّرة: " ليست طرقكم طرقي " يقول الربّ (إشعيا 55: 8)، ولكنّها تؤدّي إلى إنجازات
عجيبة.1. يقدّم لنا كتاب الخروج مثلاً واضحاً عن تلك المسيرة الروحية. اختبر الشعب
آنذاك ما يجنيه إذا ما "سار مع الله " (ميخا 6: 8) ودخل في عهده. يتقدّم الله نفسه
ليشقّ الطريق معلناً حضوره بواسطة عامود الغمام أو في عامود النار (خروج 13: 21-
22). لا يعطّل البحر سيره: " في البحر طريقك وفي المياه الغزيرة سبلك " (مزمور 77:
20)، ممّا قد يؤدّي إلى نجاة الاسرائيليين من يد المصريين وتحريرهم. أأتت بعد ذلك
المسيرة في الصحراء (مزمور 68: 8). فهناك يحارب الله عن شعبه ويحمله، "كما يحمل
المرء ولده "، ويوفر له أكلاً وشرباً و"ينظر له مكاناً ينزله فيه "، ويسهر حتى لا
ينقصه شيء (تثنية 1: 30- 33). ولكنه يتدخّل أيضاً ليعاقب إسرائيل على قلّة إيمانه.
حقاً، ليس السير مع الله أمراً هّيناً. ويمكن اعتبار مرحلة الصحراء، كمرحلة تجربة
سمحت لله أن يمتحن قلوب شعبه حتّى أعماقها فيقوّمهم (تثنية 2:8- 6). عليه فقد أصبح
طريق الله طويلاً ومتعرجاً (ثنية 2: 1: 1- 2). ولكنّه لا يلبث أن يوصل إلى الغاية:
إن الله يقود شعبه إلى الراحة، في أرض صالحة، حتّى لا يعوز إسرائيل شيء من حاجته،
فيبارك الرّب (تثنية 8: 3- 10). وبذلك يدو جليّاً "أن سبل الربّ جميعها رحمة وحق "
(مزمور 25: 10، راجع مزمور 136)، وأنّ " كلّ طرقه حكمة) ثنية 32: 4).يحيي اليهود
ذكرى الخروج كلّ سنة في عيد الفصح وعيد المظالّ. وقد يطبع ذلك في روح إسرائيل
انطباعاً عميقاً وتساهم المزارات (شكيم وشيلو ثم أورشليم " في تدعيم فكرة الطريق
المقدّس المؤدّي الى راحة الله. وعندما تهدّد الوثنية بأن تحتلّ محلّ ديانة التوحيد،
يتخذ إيليا طريق حوريب. وفيما بعد أضفى الأنبياء الطابع المثالي على هذا الزمن الذي
كان يسير فيه الله مع ابنه (إسرائيل) (هوشع 11 : 1 - 3) .2. الشريعة: حتى بعد وصوله
إلى أرض الميعاد، لا يزال إسرائيل ملزماً بأن "يواصل مسيرته في طريق الربّ " (مزمور
128: 1) التي تعتبر معرفتها من أعظم امتيازاته (مزمور 147: 19- 20). حقاً، إن الله
قد كشف لشعبه "طريق التأدب بكماله ". هذا هو "كتاب أوامر الله " و" الشريعة التي
تدوم إلى الأبد" (باروك 3: 37، 4: 1). فلا بدَ إذاً من السير "في شريعة الرّبّ " (مزمور
119: 1)، حتّى يبقى المؤمن في عهد الله، وبتقدّم صوب نوره نحو السلام ونحو الحياة (باروك
3: 13- 14). إنّ الشريعة هي الطريق الحقيقي للإنسان، لأنّها طريق الله. ن ّعصيان
الشريعة ضلال (تثنية 31: 17) يؤدّي إلى الكارثة. وآخر جزاء هذا هذا العصيان هو
السبي (لاويين 26: 41)، وهو السير في اتجاه معاكس لطريق الخروج (هوشع 11 : 5). ولكن
لا يمكن أن يستسلم الله لانحطاط شعبه (لاويين 26 : 44 - 45). فلا بدّ من إعداد طريق
للربّ في الصحراء مرة أخرى (إشعيا 40 : 3) وسيحمل الله ذاته " في البرّية طريقاً "
(إشعيا 43 : 19)، ومن جميع الجبال طرقاً (إشعيا 49 : 11) لرجوعه بانتصار .
ثانياً: الطريقان
في زمن اليهوديّة، تلخّص عقيدة " الطريقين " سلوك البشر الأدبي، حيث كان يوجد نوعان
من السلوك، أي طريقان: الصالح والشرير (مزمور 1: 6، أمثال 4: 18- 19، 12: 28).
فطريق الفضيلة"، وهو طريق مستقيم وكامل (1 صموئيل 12: 23،1 ملوك 8: 36، مزمور 101:
2 و6، 1 كورنتس 12: 31) يؤدّي إلى ممارسة البرّ (أمثال 8: 20، 12: 28) وإلى الأمانة
للحقيقة (مزمور 119: 30، طوبيا 1: 3) والبحث عن السلام (إشعيا 59: 8، لوقا 1: 79).
وتؤكد كتب الحكمة أن هذا هو طريق الحياة (أمثال 2: 19، 5: 6، 6: 23، 15: 24)، وهو
يكفل طول الحياة والتمتّع بخيراتها. أما الطريق الشرير المعوجّ (أمثال 21: 8)، فهو
الذي يتبعه السفهاء (أمثال 12: 15) والخطأة (مزمور 1: 1، سيراخ 21: 10) والمنافقون
(مزمور 1: 6، أمثال 4: 14 أو 19، إرميا 12: 1). وهو يقود إلى الهلاك (مزمور 1: 6)
وإلى الموت (أمثال 12: 28). وللإنسان حرية الاختيار بين هذين الطريقين، وعليه أن
يتحمّل مسؤلية اختياره (تثنية 30: 15- 20، سيراخ 15 : 12). وقد أشار الإنجيل إلى
ضيق الطريق المؤدى إلى الحياة، وإلى قلة الذين يهتدون إليه، في وقت سلك فيه كثيرون
الطريق الرحب المؤذي إلى الهلاك (متّى 7: 13- 14).
ثالثاً: المسيح، طريق حيّ
لم يكن الرجوع من السبي إلا صورة عن الحقيقة النهائية التي تنبأ عنها يوحنا
المعمدان بنفس العبارات التي استعملها إشعيا للتعبير عن الخروج الجديد وهو الرجوع
من السبي " أعدّوا طريق الربّ " (لوقا 3: 4، راجع إشعيا 40: 3). وحقّاً، إن العصر
المسياني هو خروج جديد، ويؤدّي فعلاً هذه المّرة الى راحة الله (عبرانيّين 4: 8-
9). فيظهر يسوع، بمثابة موسى جديد، قائماً بدور المرشد والرفيق والقائد (لو 24 :
15، عبرانييّن 3: 5- 6، 12 : 2- 4)، داعياً البشر لاتباعه (متّى 4: 19، لوقا 9: 57-
62، يوحنا 12: 35- 36). وقد يعطي حادث التجلّي شعوراً مسبقاً بالملكوت العتيد فيضيء
طريقه لحظة خاطفة، سرعان ما يذكرنا قول الرب بضرورة الآلام والعبور بالصليب لدخول
المجد الذي لن يكون إلا عن طريق الصليب (متى 16: 23، لوقا 24: 26، 9: 23، يوحنا 16:
28). ثم يعزم يسوع على المضيّ إلى أورشليم، هذا الصعود الذي سينتهي بموته على
الصليب (لوقا 9: 51، 22: 22 و33). ولكن خلافاً للطقوس القديمة، تدخله هذه الذبيحة
إلى السماء عينها (عبرانيين 9: 24)، وتفتح لنا الطريق في المسيرة نفسها. فبدم يسوع،
يمكننا مم الآن فصاعداً، أن ندخل إلى القدس الحقيقي، ومن خلال جسده، يفتتح لنا
طريقاً جديداً وحيّاً (عبرانيين 10: 19- 21) . وفي كتاب أعمال الرسل، تدعى
المسيحيّة الناشئة " الطريق " (أعمال 9: 2، 18: 25، 24: 22). وفي الواقع، يدرك
المسيحيون أنهم وجدوا الطريق الحقيق الذي لم يكن " مفتوحاً" حتّى أيامهم (عبرانّيين
9: 8). لأنه لم يعد هذا الطريق بعد ذلك شريعة بل شخصاً، هو يسوع المسح نفسه (يوحنا
14: 6) فيه يتحقق لهم الفصح والخروج، وفيه ينبغي أن يسيروا (كولسي 2: 6)، بل أن
يجروا (فيلبي 3: 12- 14)، سائرين في طريق المحبة (أفسس 5: 2، 1 كورنتس 12: 31)،
الذي فيه يجد اليهود والوثنيّون سبيلاً الى الآب في روح واحد (أفسس 2: 18). |